حسيب كيالي.. تشيخوف سورية
بعدما حكينا، في الاتصال السابق، مطولاً عن أديبنا الكبير حسيب كيالي، قال أبو سعيد إنه يتمنى لو نركز، الآن، على الجانب الفكاهي في شخصيته، على غرار ما فعلتُ أنا في الفيديو الذي سردتُ فيه بعضَ طرائف الدكتور عبد السلام العجيلي.
قلت: إن الجانب الفكاهي هو المميز لشخصية حسيب كيالي الأدبية، وأنا أستطيع أن أتوسع في الحديث عنه، لأنني أعرفه جيداً، من خلال أعماله الأدبية الموزعة بين الشعر والقصة والرواية والمسرحية والمقالة الأدبية، وقد قرأتها كلها، بالإضافة إلى أنني تعرفت عليه في السنوات الأخيرة من حياته.
- هل كنت تلتقيه في إدلب؟
- لا. فحسيب، المولود 1921، ترك إدلب منذ أيام صباه، أي في أواسط الثلاثينيات من القرن العشرين، ويمكن القول إن الزمن الذي عاشه في إدلب أقل مما عاشه في دمشق وباريس، ومع ذلك بقي طوال حياته مخلصاً للبيئة الشعبية الإدلبية، وقد فسر ذلك، ذات مرة، قائلاً إن له معارف في إدلب ظلوا يراسلونه ويرسلون له الأخبار الطريفة حيثما حل..
سافر حسيب، في سنة 1981، إلى دبي، ولم يعد إلى سورية إلى أن مات ودفن في مقبرة "القوز" يوم 6 يوليه 1993. أما كيف تعرفت عليه، فلهذا حكاية قد تكون طريفة.
- كيف؟
- أنا، محسوبك، أصدرت مجموعتين قصصيتين صغيرتين، الأولى "حكى لي الأخرس" في سنة 1987 والثانية "عودة قاسم ناصيف الحق، 1989، وخطر لي أن أهديهما إليه، لأن كثيرين ممن قرأوا كتاباتي الأولى، وجدوا أنني أمشي على أثره، وبعضهم كانوا أكثر صراحة فقالوا لي: أنت تريد أن تكون نسخة منه. المهم؛ لم أكن أعرف عنوانه، فنصحني أحد الأصدقاء الذي يعرف أن حسيب يعمل في إذاعة دبي، أن أكتب العنوان: إذاعة دبي- حسيب كيالي، فربما تصل الرسالة. انتصحت، وأرسلت المجموعتين القصصيتين إلى العنوان المذكور، فوصلتا إليه بالفعل، وسرعان ما رد علي برسالة طويلة، وصار بيننا تراسل استمر إلى يوم وفاته. وكان أحياناً يتصل بي هاتفياً، ويستمر الاتصال وقتاً لا بأس به، ووجدت، من خلال ذلك أنه متحدث بارع، وهذا، برأيي، أحد أسباب نجاحه في الكتابة السردية، فلو كان متحدثاً عيياً، تأتاءً، لأتت كتاباته خالية من الجمال والانسيابية.
- رائع. خلنا، يا أبو مرداس، في حقل الدعابة والسخرية.
- نحن ما زلنا في هذا الحقل، وحسيب، بكلمتين فقط: كاتب هَجَّاء. ولذلك كان معجباً أشد الإعجاب بأبي عثمان الجاحظ، وأبي حيان التوحيدي، وشعر ابن الرومي بشكل خاص. وللهجاء، عنده نوعان، أحدهما للمزاح والدعابة، تجلى بالتهاجي مع ابن عمه عبد الجبار، وكانت هجائياتُهما المتبادلة تنتشر ضمن العائلة والأصدقاء المقربين، يسجلونها في دفاترهم، ويقرأونها في مجالسهم لأجل الضحك والتندر، وكنت قد حصلت على تلك الهجائيات من الأخ يوسف خربوط.. وقد اشتهرت قصيدة له في هجاء عبد الجبار يقول فيها:
زعموا بأنك قد كتبتَ قصيدةً
كالتبر، بل كالعسجدِ الإبريزِ
من أين جاءتك الفصاحةُ والحِجَا
هل كان في حرز يصان حريزِ؟
للشعر سر إن أردت بلوغه
في مثل لمح البرق فـ.....
وقد تطور التهاجي بينهما إلى أن حسيب ألف كتاباً نثرياً تجتمع فيه القصة القصيرة مع الرواية مع المقالة، أطلق عليه اسم "حكايات ابن العم"- دار الينابيع 1991، وكله يستند إلى رسالة وردته من عبد الجبار، يخبره فيها أن ولده "عماد" أصبح طبيباً مختصاً بالأمراض التناسلية، وأن بإمكانه (أي حسيب)، أن يعرض نفسه عليه، لأنه تقدم بالسن، وأصبح في حاجة ماسة لمثل هذا الاختصاص!
- بجد، يا أبو مرداس، هذه العلاقات ظريفة، ويبدو فيها حب متبادل بين حسيب وعبد الجبار، على الرغم من التهاجي.
- نعم، وهناك الهجاء السياسي، أيضاً، وقد ذاعت لحسيب، في الخمسينيات، قصيدة سياسية، هجا فيها نائباً في البرلمان، قرأها علينا ذات مرة الدكتور عبد السلام العجيلي الذي كان يحفظها غيباً، وهي:
أيهذا النائـــبُ الشـــهم الذي يدعى فلانا
لا أسميـــك فقد أُطرح في السجن زمانا
هاتِ خبرني لمـاذا حين تغشى البرلمانا
يسقط الرأسُ على الصـدر وتغفو يا أخانا؟
قال هذا مبــدأ يبعث في النفــس الأمانا
نحن حــــزبٌ يملأ الجوَّ شخيراً والمكانا
نحن لا نخطب في المجلس لكنْ مِنْخَرَانا
قلت: هل أنتم كثيرٌ يا عظيماً جلّ شــانــا؟
قال: اخرس، إننا نحن خلقنا البرلمـــــانا!
وثمة طرائف كثيرة، منقولة عن حسيب كيالي، روى لنا إحداها الدكتور رياض نعسان آغا، تعود إلى يوم أجرى معه مقابلة تلفزيونية، وسأله عن الأدب والأدباء، حتى وصل إلى الحديث عن الفن، وسأله عن المطربين الكبار، فكان يتحدث عنهم بإعجاب، وبما يوحي أنه يمتلك حساً فنياً جميلاً، فلما سأله عن محمد عبد الوهاب، قال حسيب:
- عبد الوهاب ماشي حاله.
- كيف ماشي حاله؟ ألا تعتبره واحداً من أعلام الغناء في الوطن العربي؟
- لا أبداً، هو، باختصار، هو مطرب لا بأس به، ماشي حاله!
يقول رياض إنه استغرب هذا الجواب، لمعرفته السابقة أن حسيب "وهابي" (بمعنى أنه مولع بالمطرب محمد عبد الوهاب)، وعندما انتهت المقابلة، وخرجا من الاستوديو سأله إن كانت ذائقته الموسيقية قد تغيرت، وأقلع عن حب عبد الوهاب. فقال:
- أبداً، ما زلتُ مولعاً به.
- فلماذا قلت (ماشي حاله)؟
- لأنني أريد أن أغيظ صديقي زكريا سفلو، (صاحب مطعم الريان بدمشق) الذي أتخيله وهو جالسٌ يتفرج على المقابلة، وقد وضع أمامه الأركيلة، وعندما أصل إلى قولي عن عبد الوهاب (ماشي حاله)، يرفس الأركيلة، ويغضب، ويبدأ السباب علي، وعندما أطرق عليه الباب، وقبل أن يسلم علي يمسك بخوانيقي وهو يقول:
- ماشي حاله ما؟ عبد الوهاب ماشي حاله (يا نعتك يا صفتك)؟!