حكايات سورية (7)
قال أبو الجود: منطقتْنا، اللي هي شمالي مدينة إدلب، كان فيها طرطيرات أكثر من الطرطيرات الموجودة في كل محافظة إدلب. السبب عدم وجود دوريات شرطة مرور عندنا.
قال أبو جهاد: بلش أبو الجود يتفلسفْ. بدي أفهم أيش علاقة شرطة المرور بوجود الطرطيرات؟
قال كمال: كلام أبو الجود صحيح يا سيد أبو جهاد، لأني متلما حكيت لكم أمس، السلطة (الدوائر الحكومية) رَحَّبِتْ بوجود الطرطيرات في البداية، وبعدين انقلبت ضدها، والدليلْ إنه قائد الشرطة أصدر تعميم بمنع دخول الطرطيرات إلى مدينة إدلب، منعاً باتاً تحت طائلة المصادرة والغرامة. وبالفعل انتشرتْ دوريات الشرطة ضمن مدينة إدلب ومعهم سيارات شاحنة كبيرة، وصاروا يصادروا الطرطيرة، ويحطوها في الشاحنة، ولما تمتلي الشاحنة بكمية كبيرة من الطرطيرات المُصَادَرَة كانوا يرسلوها لمدينة حماه، لأن في حماه يوجد معمل لصهر الحديد والخردة عديمة النفع، وهالمعمل بالنسبة للطرطيرات صار شبيه بالمقبرة، يعني الطرطيرة اللي بتدخل عليه بيصير حكمها بحكم الأموات، وصاحبْها ما بيمتلكْ من الخياراتْ غيرْ إنُّه يترحمْ على طرطيرته المرحومة ويقرا لها "الفاتحة"!
قال أبو الجود: في كتير من الأشخاص اللي عندهم طرطيرات هَرَّبُوا طرطيراتهم برات المدينة، لأنه إذا الواحد باع طرطيرته بنصف تمنها أحسن ما يمسكوها الشرطة ويبعتوها على حماه، والمكان الأقرب لإدلب من جهة الشمال هوي ناحية معرتمصرين اللي بيتبعْ إلها أكثر من عشرين قرية، وهاي المنطقة خصبة كتيرْ، ومزروعة بكروم العنب وأشجار التين والزيتون.. والطرطيرات بتلزم لنقل العمال وأدوات الفلاحة والمحاصيل. المهم إنه الطرطيرات صارتْ في مناطقنا أكتر من النمل، واللي بينزل على سوق معرتمصرين بعد العصر بيلاقي أكتر من عشر طرطيرات واقفة متل الباصات لما بتوقف في كراج الانطلاق بحلب، وبيشوف طرطيرات في وضعيةْ الإقلاعْ، وطرطيرات عم تْكَرِّجْ.
قلت: إذا بيسمح لي أبو الجود بدي أوضح مسألة شخصية. أنا رغم تعاطفي مع الناس الغلبانين المفلسين المضطرين لشراء الطرطيرات واستخدامْها في أعمالهم كنتْ أنزعجْ كتير من وجودها، ويقشعرّ بدني من صوتها بالأخص لما بتقلِعْ.. ومرة من المرات حبيت أتفلسف، فقلت: يُقاسُ رُقِيُّ المدن بمقدار تناقص الطرطيرات في شوارعها!
قال كمال: أنا كمانْ بدي أوضح مسألة. صحيح إنه ريف إدلب الشمالي ما فيه دوريات تابعة لشرطة المرور، لاكن مدير الناحية بيمثل السلطة التنفيذيّة للدولة، يعني بإمكانه يْسَيِّرْ دورياتْ شرطة، والدوريات تلقي القبض على الطرطيرات وتسوقها إلى معمل صهر الحديد والخردة في مدينة حماه.
وقف أبو الجود، مشى نحو كمال، قَبَّلَ جبينه، وقال له:
- على راسي وعيني إنت يا أستاذ كمال، والله أنك رميتْ، ورَمِيْتَكْ نزلتْ في نص الهدف. يا سيدي، مدير الناحية، وكان إسْمُه الرائد هايل البَحَّاشْ (اسم افتراضي)، عملْ ذات مرة كمين للطرطيراتْ، وصادرْ أكترْ من تلاتينْ طرطيرة، والشرطة أحضروا الطرطيرات المُصَادَرَة لمكان واسع قدام مبنى الناحية. وكان بيناتهن طرطيرة لابن بلدنا "أبو خلدون الفاتح".
ارتسمت الابتسامات على وجوه الحاضرين، فقد توقعوا أن الحكاية من هنا تتضمّن أشياء طريفة، لأن أبو خلدون واحد من ظرفاء المنطقة، وظرافته بتبلغ الأوْجْ لما بيوقع في أزمة.
قال أبو الجود: أبو خلدونْ طَقّْ عَقْلُهْ، وبلش يفكر كيف بده يسترد طرطيرته من براثن مدير الناحية. مين هاد مدير الناحية؟ صار يسأل عنه. أيش إسمه؟ من أيّ بلادْ؟ بقي يسأل لحتى جمع عنه معلومات كثيرة. (الاسم: هايل البَحَّاشْ، والده عمر البحاش.. من مدينة اسمها النهرية تابعة لريف حمص الشرقي).. وراح باتجاه المكان القريب من مركز الناحية اللي جمعوا فيه الطرطيرات، ووقف وصار يصيح للناس: يا شباب، يا أهل البلد، تعالوا شوفوا واسمعوا، أنا عندي حكي بدي قوله. وصاروا الناس يتجمعوا وأبو خلدون عم يحكي: سيادة الرائد هايل البحاش صادر لنا الطرطيرات، أشو عليه؟ خليه يصادرهن. بالنسبة إلي "أبو عمر البحاش" بيمون على الطرطيرة، وعلى صاحب الطرطيرة. ليش؟ لأنه هادا رجل كريم من بيت كرم. روحوا اسألوا عن بيت البحاشْ بمنطقة البادية، شرقي حمص. هني صحيح من عيلة البَحَّاشْ، لاكن الناس هنيك بيسموهم (بيت أبو ادْبَحْلُه)، الحاج عمر البحاش، أبوه للرائد هايل طول النهار بيدبحْ خرفان، وبيمدَ سفر، والرايح بياكل من سفرته والجاي بياكل. ذات مرة صارت قصة كويسة بهديكه المنطقة. تخانق رجل مع مرته، لأنه أجا ع البيت لقى مَرْتُه مو طابخة.. وصار يصيح، هيي قالت له: لأيش عم تصيح؟ جوعان؟ روح كول عند بيت البحاش! وبالفعل الرجل راح ولقى السفرة ممدودة، أكل وحمد ربه.
تابع أبو الجود رواية القصة قال: ولما وصل أبو خلدون لهون كان أكتر من خمسين شخص متجمعين حواليه، ومدير الناحية كان واقف ع الشباك وفارط من الضحك.. وقال لرئيس المخفر: رجع الطرطيرات المصادرة لأصحابها.. وحسب ما سمعنا بعدين إنه علق مدير الناحية على كلام أبو خلدون وقال:
- يخرب بيته هالإنسان شو كذاب. قال نحن أغنياء ودباحين خواريف، قسماً بالله أنا عيلتي ما في أفقر منها بكل منطقتنا، وكنا أنا وأمي وأبي وإخوتي في أكتر الأحيان ننام بلا عشا!