حكايات من البلد (6)
وصل صديقُنا أبو الجود في سرد الحكاية المتعلقة بعملية التشبيح التي خاضها ولدُه الرابع "فيصل" إلى نقطة حرجة، وقال إن الأسرة كلها أصبحت، منذ ذلك الحين، أمام مفترق طرق، بل وتحت الخطر.. ولكن ما قيمة الخطر أو الأخطار إذا رأى المفلسُ بين يديه دون سابق إنذار مالاً كثيراً؟ يا سيدي، مية خطر بقشرة بصلة.
أحضر الشاب فيصل، يومئذ -كما أخبرنا أبو الجود- مئة ألف ليرة سورية، التي كانت قيمتها تساوي 2200 دولار أميركي تقريباً، أي ما يعادل عشرة ملايين ليرة سورية بعملة سنة 2021، وخبأها في الغرفة التي ينام فيها مع أخيه محمود، وخرج من البيت.. أبو الجود ارتاب بأمره، فلحقه إلى الزقاق، ومشى معه، واستمر يسأله، ويستنطقه، ويلح عليه، حتى عرف منه تفاصيل عملية التشبيح التي قبض عليها 100 ألف ليرة. قال فيصل إن العملية جرت لمصلحة رجل من إدلب يدعى أبو سمير، ومعلم التشبيح ساعد أبو سمير في تحصيل حقه من خصمه النصاب "أبو فطوم" بالقوة، وفيصل، بوصفه وسيطاً بين أبو سمير والمعلم، أخذ حصته، وركض إلى البيت وكأنه عثر على كنز داشر في برية.
عندما عرف أبو الجود أن ابنه يمتلك 100 ألف ليرة، ألقى بنفسه عليه مثل القتيل، ووقعا على الأرض كومة واحدة، وقال له معاتباً بقسوة: معك مية ألف ليرة يا سرسري ونحن عم نعوّي من الجوع متل الكلاب الجعارية؟
فيصل: خلص ياب، بعد اليوم انشالله ما في جوع. أنا عرفت طريق المال، وكلما لقيت زبون واقع في مشكلة بتفق معه، ومنجيب مية ألف أو مية وخمسين ألف، أو ميتين، يعني، على هوا المشكلة، كبيرة أو زغيرة أو وسط.
الشي اللي بيضحك أن التنين المتخاصمين قبلوا بهالحل، وقال له واحد منهم (هات، ناولني عشرين ليرة). بوقتها أبوي تفاجأ وقال: آ؟ بس أنا ما معي مصاري
أبو الجود: إن شاء الله في المستقبل تجيب ملايين، أنا بيهمني هدول اللي خبيتن في الدار، لأن عصفور في الإيد، على قولة المتل، أحسن من عشر عصافير طايرات في الجو.. شوف يا إبني، أنا هلق، بدقيقة، بكتب لك "ليسطه" إذا بتشتريها بيطيروا خمسين ألف من المبلغ، ولاك نحن مكسورين، وعايشين من قلة الموت. يا زلمة، صدق بالله، معدتنا يبست من الزيت والزعتر، وملينا من الخبز اليابس اللي بتفتفته والدتك المحترمة في قلب المخلوطة. بقلك شغلة؟
فيصل: قول ياب.
أبو الجود: اركوض هلق ع الدار، متل البرق، جيب خمسة آلاف ليرة وتعال لهون، خلينا نروح ع سوق معرتمصرين، نجيب شوية أكل لأخواتك. أكل متل الخلق مو زيت وزعتر ومخلوطة ومجدرة.. أشو رأيك؟ منعمل صفايح ولحم بعجين، ومنشوي شقف وكباب، وبخلي القصاب يشوي لنا معهن بندورة وبصل ويفرم لنا بيواظ، ومنمر على دكان "دَزّون" منشتري مشبك، وكنافة، وقطايف، ومنجي ع الدار ومنعمل لأمك وأخوتك مفاجأة. وأنت؟ ولاك شلون بيكون معك مية ألف وتيابك متل تياب العتال رمضان بظّو؟ علي الطلاق أنا لو كنت محلك لأخلي كرافتي توصل لتحت زناري بشبر. ليك، الأحسن إنك تجيب عشرة آلاف ليرة، خلينا نشتري كام غرض كويسات إلي وإلك. خلص، أنا من بكرة وطالع بدي إلبس تياب الأغوات وأمشي في زقاقات الضيعة وخلي كعب الصباط يطرطق ع الأرض، ويطلّع غبرا.
فيصل: لأ ياب، بلاها، هيك أمي وإخوتي بيشتلقوا.
أبو الجود: وإذا اشتلقوا؟ بتشتري لهم. بس وينك؟ لا تقول قدام أمك إنك اشتغلت بالتشبيح. خيو قلا سحبت نمرة يا نصيب وربحت خمسين ألف. لا تقول 100. أمك فظيعة، بدقيقة بتاخد المصاري وبتخبيهن في المخدة. شوف ولاك فيصل الجحش. من هلق ورايح أنا بدي ساويك زعيمنا. ولا أقول لك؟ خطرت لي فكرة أحسن من هاي.
فيصل: قول ياب.
أبو الجود: بكرة مننزل أنا وأنت وأمك عَ محكمة الصلح في معرتمصرين، وأنت بتدّعي قدام القاضي إني نحن، يعني أمك وأبوك، خرفانين، وبتطلب منه يحجر علينا، ويعينك إنت وصي.
فيصل: إنت وأمي مانكن خرفانين، محشومين ياب.
أبو الجود: لا محشومين ولا صرمايتك. لكان بعمرك شفت زلمة طويل عريض، ومخلف 8 ولاد، وما في بجيبه عشر ليرات؟ أنا علي الطلاق بالتلاتة من يوم تزوجت هالمستورة والدتك ما صادف إني مديت إيدي على جيبي ولقيت فيه عشر ليرات. ابروك ابروك، خليني إحكي لك سالفة.
فيصل: وين بدنا نبرك ياب؟
أبو الجود: هون عالأرض، علي الجيرة هالأرض اللي مليانة بعر غنم وسقط جاج أنضف من تيابي وتيابك اليوم. أما بكرة لما منلبس تياب كويسة ما عاد نقعد غير ع الكراسي والقلاطق. أي لكان. لك ابروك.
جلس فيصل وأبو الجود على أرض الزقاق، وبدأ أبو الجود يحكي لابنه حكاية من الزمن القديم. بدي إحكي لك عن أبوي، يعني جدك جواد.
رفع أبو زاهر يده، وقال: نقطة نظام يا أبو المراديس.
أبو المراديس: تفضل.
أبو زاهر: أنا برأيي إنك بتكفي لنا حكاية أبو الجود وفيصل والمصاري، أحسن ما نضيع بقصة أبوه لأبو الجود، وما عاد نعرف لوين وصلنا.
أبو المراديس: كلامك في الظاهر منطقي يا أبو زاهر، لكن لا تنسى إننا حطينا عنوان لهاي السلسلة (حكايات من البلد)، يعني منحسن في كل سهرة نحكي أكتر من حكاية، وما بيمنع إني نرجع، بعد كل حكاية فرعية، لحكايتنا الرئيسية.
أبو زاهر: طيب. تفضل.
أبو المراديس: حكى أبو الجود لإبنه فيصل عن والده المرحوم جواد، إنه كان فقير كتير، لكن عنده نخوة قوية، وكلما شاف حدا محتاج كان يشعر بضرورة لأنه يساعده، ومرة من المرات شاف تنين من أهل الضيعة عم يتخانقوا، فتدخل بيناتهم، وعرف من خلال المجادلة أنهم مختلفين على عشرين ليرة. فدق بإيده على صدره وقال: خيو عندي. أنا بدفع العشرين ليرة، المهم تتصالحوا وتتصافوا.
الشي اللي بيضحك أن التنين المتخاصمين قبلوا بهالحل، وقال له واحد منهم (هات، ناولني عشرين ليرة). بوقتها أبوي تفاجأ وقال: آ؟ بس أنا ما معي مصاري.
(للقصة تتمة)