حكايات من البلد (8)
استخدم أبو جهاد في وصف صديقنا "أبو الجود" كلمة "حقير". أبو جهاد، على ما أعتقد، هو الشخص الوحيد في العالم الذي يقرّع أبو الجود ويجور عليه بالكلام متى شاء، مستخدماً أقذع العبارات، وأبو الجود يضحك، ويرد عليه بمزحة، أو يتجاهل كلامه ويمضي.
قال أبو جهاد: تركتنا يا "حقير" متشوقين حتى نعرف أيش صار بإبنك فيصل، وصرت تحكي لنا عن أبوك والـ 70 قرش اللي بيخليها في جيبه على طول الخط.
أبو الجود: وحضرتك يا أبو جهاد ما بتعرف ليش أنا عملت هيك؟
أبو جهاد: لا والله. ليش؟
أبو الجود: لأني حقير!
وضحك الحاضرون. وتدخل كمال وحكى لنا حكاية. أبو جهاد اغتاظ ضمنياً من تدخل كمال، ولكنه يخجل منه، لذلك سكت.
كمال: كلمة "حقير" في اللغة العربية الفصيحة، الأصلية، بتعني الإنسان اللي حجمُه ضئيل، وأبداً ما بتدل عَ الندالة والوطاوة، أو الحقارة بمعناها المعاصر. ومتلما بتعرفوا، الأجانب اللي بيتعلموا اللغة العربية ما بيقدروا يحكوا بالعامية، بتلاقيهم لما بيزوروا بلادنا عم يحكوا بالفصحى. ومرة أجا سائح روسي متعلم اللغة العربية من القواميس، ونزل في الشام. وطلب من مدير الفندق يدلُّه على مرشد سياحي حتى يرافقه، ويفرجيه ع المناطق الأثرية في الشام والمناطق القريبة منها. جابوا له واحد كتير فهيم، ونشيط، وبنفس الوقت ضئيل الجسم، معصمص. وبعدما انتهت الجولة، السائح عزم المرشد السياحي ع الغدا في مطعم الكمال. وأثناء تناول الغدا لاحظ السائح إن شهية المرشد ع الطعام قليلة، فصار يكوم قدامُه شقف اللحم وسياخ الكباب، ويقول له: كُل يا أخي، كُلْ وَتَغَذَّ جيداً فأنت حقير!
بعد انتهاء كمال من إلقاء نكتته، عاد أبو جهاد يطالب "أبو الجود" بإخبارنا عن مصير ابنه فيصل، ومبلغ الـ 100 ألف ليرة سورية التي قبضها من المدعو "أبو سمير" بعد صفقة التشبيح..
أنا بكل برادة التفتت على أم الجود وقلت لها: جاوبيه يا مَرَة، أنا بعرف إنه إبني، بس ماني متأكد
أبو الجود: بالنسبة إلنا، أنا وعيلتي، كنا، من شدة الفقر، متل الأرض العشطانة المشققة لما بينزل عليها مطر، بتلاقيها عم تغب وبتبلع. فيصل خبى 25 ألف ليرة بمكان حتى الدبان الأزرق ما بيحسن يوصل له، وأم الجود حصلت من المبلغ شي تلاتين ألف، وخبتهن، كمان ما بعرف وين، والباقي راحوا بعزقة، على شوي لحوم، وصواني كنافة، وقَلي قطايف بالقيمق وبالجوز، وشراء تياب وفرش ولحف ومخدات، الله وكيلك وجوهنا اللي كانت على طول صفرا احمرّت، وبلشنا نسمن، وتضيق تيابنا علينا.
أبو زاهر: عفواً أخي أبو الجود، وفيصل؟
أبو الجود (ضاحكاً): قصدك الحقير فيصل؟ يا سيدي، فيصل سافر، منشان يلتحق بقطعته العسكرية، وقبلما يمشي وعدني - وعد شرف - بأنه يستمر بالعمل مع الشبيحة، وإنه راح يطور أفكاره التشبيحية، وبإذن الله في الإجازة القادمة راح يجيب مبلغ يكفينا لنشتري دار كويسة، ونفرشها من بابها لمحرابها بأحلى مفروشات، ويمكن نشتري سيارة تكسي مستعملة، أو بيك آب، وقال لي إنه بده يفتح حساب في البنك بإسمنا نحن التنين، أنا وهوي، يعني إذا هوي كان في الشام وحط مصاري في الحساب، بحسن أنا إسحب من إدلب. شي خيو متل الكذب.
أبو جهاد: ليش (متل) الكذب؟ علي الجيرة هالقصة من أولها لآخرها كذب، بس بدك الصراحة؟ كذب كويس. كمل لنشوف.
أبو الجود: حكيت لكم من قبل إن المحتال أبو فطوم اللي نصب على أبو سمير، في الأساس شريك واحد عضو بفرع الحزب، وكان هالعضو يغطي على سلبطات أبو فطوم واحتيالاته، وبالأخير بيتقاسموا الغلة بالنص، وهادا الشي كان يصير هون، على مستوى إدلب، لكن لما دخل معلم الشبيحة الكبير ع الخط، شافوا إن الأمور لايصة، والتقوا مع بعضهم بشكل سري، واتفقوا إنه يرضخوا للأمر الواقع، لبينما تمر هالزوبعة. وهادا اللي صار، رضخوا، وما اعترضوا على تنفيذ الحكم لمصلحة أبو سمير بعد الضغط القوي من معلم الشبيحة... وإبني فيصل جاب حصته من العملية متلما بتعرفوا. بس اللي صار بعدين بيخلي شعر الأطفال يشيب.
كمال: أيوه. هلق بلشنا بالتشويق.
أبو الجود: والله يا أستاذ أنا ما بفهم بالتشويق، عم بحكي لكم القصة متلما صارت. يا سيدي، عضو الفرع – بحسب ما سمعنا - زار كبير الشبيحة في مقرُّه، وجاب له سيرة أبو فطوم وأبو سمير، وسأله إذا عاد في خطر عليه باعتباره شريك أبو فطوم، فقال له: ولو يا رفيق، إنت رفيقنا وأخونا ومن عظام الرقبة، وأنا بالنسبة إلي وصلني حقي، وبحضي وبديني إذا حدا بيقرب عليك تَـ أكون أنا خصمُه!
ولما ترسمل عضو الفرع من زوال الخطر عنه، رجع على إدلب، وخبر أبو فطوم إنه يجي لعنده، ورتبوا مع بعضهم سفرة عَ الشام، وعملوا جولة على معارف عضو الفرع، كان الهدف منها تأديب أبو سمير، وأمثاله.. وواحد من ضباط الأمن الكبار لما ازاروه وحكوا له الحكاية قال له: اترك لي الموضوع إلي، وأنا بربّي لك أبو سمير والأكبر منه.
المهم، في يوم من الأيام، كنا أنا وبنت الأوادم أم الجود قاعدين في أرض الديار عم نتشمس، وإذ بيجي لعندنا أبو سمير. عم يرغي ويزبد ويعربد، وقال لي إبنك الحقير خرب بيتي. المخابرات بلشوا يفتلوا حوالي، والله يستر ما نصفّي أنا وولادي في شي حبس أو فرع..
قلت له: طول بالك يا حجي. أول شي أنت مين، وأشو قصتك؟ نحن عدم المؤاخذة ما منعرفك. شفناك شي قبل هالمرة؟
قال لي: ولاك شلون ما بتعرفوني؟ هادا الحقير فيصل مو إبنك؟
أنا بكل برادة التفتت على أم الجود وقلت لها: جاوبيه يا مَرَة، أنا بعرف إنه إبني، بس ماني متأكد.
قالت لي أم الجود: الله يقطعكم إنت وهوي.. إبنك لكان إبن مين؟
قلت له: هلق تأكدنا. فيصل إبني، وهوي حالياً في قطعته العسكرية. إئمرني، أنا بأيش بحسن إخدمك؟
(للقصة تتمة. وسيكون ذلك بعد شهر رمضان لأننا سننشر خلال رمضان سلسلة رمضانية).