حكاية سكة حديد يافا - القدس
في الوقت الذي كانت فيه الدولة العثمانية تعيش أسوأ حالاتها بسبب المؤامرات الأوروبية والانهيار الاقتصادي وخلو خزانتها من الأموال، كان التغلغل الاستعماري الأوروبي في الأقاليم العربية التابعة للدولة العثمانية وعلى رأسها فلسطين يتقدم بشكل متسارع ويستفحل شيئاً فشيئاً منذ منتصف القرن التاسع عشر، عن طريق البعثات الأجنبية المتعارف عليها وقتها بـ(الحملة الصليبية السلمية) لإيجاد موطئ قدم في الأقاليم العربية ولاسترداد الأرض المقدسة (فلسطين)، مستفيداً من (نظام الامتيازات) العثماني والذي منح على أساسه عدد من الشخصيات والشركات الأجنبية عقوداً لبناء وتشيد مشاريع (تحديثية) في فلسطين.
وفي هذه اللحظات الفارقة من تاريخ فلسطين التقت مصالح الحركة الصهيونية مع الاستعماري الأوروبي للاستيلاء على أرض فلسطين والعمل على تشجيع الحركة الاستعمارية وتمكين الهجرة اليهودية، وتبلورت أولى المشاريع الاستعمارية بفكرة مشروع بناء خط سكة حديد يافا - القدس، عندما تواصل السير الإنكليزي من أصل يهودي (موسى مونتفيوري) بشكل مباشر مع رئيس الوزراء البريطاني وقتها اللورد (هنري جون تمبل) في عام 1856، وناقش معه فكرة بناء خط سكة حديد يافا - القدس لخدمة المشاريع الاستعمارية والاستيطانية، ثم تم استغلال زيارة الوزير العثماني (محمد أمين علي باشا) للندن في العام نفسه لجمع (موسى مونتفيوري) مع (محمد أمين علي باشا) لمناقشة الفكرة التي تمخضت عن توقيع اتفاق مبادئ حول المشروع في 20 مايو/أيار 1856، إلا أن الدولة العثمانية سرعان ما تراجعت عن المشروع في وقت لاحق.
في الوقت الذي بدا فيه أن مشروع بناء خط سكة حديد بين يافا والقدس سيبقى حبرا على ورق ولن يرى النور إطلاقاً، تلقف رجل الأعمال اليهودي العثماني المولود في مدينة القدس (يوسف نافون) الفكرة، وبدأ باستكشاف إمكانية بناء خط سكة حديد بين يافا والقدس في عام 1885، ثم انتقل (يوسف نافون) إلى إسطنبول وأمضى ثلاث سنوات فيها للترويج للمشروع وللحصول على إذن من أصحاب القرار في الدولة العثمانية.
وفي 28 أكتوبر/تشرين الأول 1888 نجح (يوسف نافون) في الحصول على امتياز من الدولة العثمانية لتنفيذ المشروع، وإثر ذلك سافر (يوسف نافون) إلى أوروبا في عام 1889 للعثور على ممول أو مشتر للمشروع، فتعثر برجل الأعمال الفرنسي (برنارد كاميل كولا)، الذي اشترى المشروع مقابل مليون فرنك، واعتبر المشروع وقتها أنه تعاون نادر بين اليهود والكاثوليك والبروتستانت، إلا أن اليهود أعربوا من خلال منشوراتهم عن قلقهم من المشروع لأنه لا يخدم المصالح اليهودية.
تعرض خط سكة حديد يافا - القدس لعمليات تخريب من قبل الثوار الفلسطينيين بالألغام والمتفجرات مع بداية ثورة فلسطين الكبرى، إذ شكل الخط وقتها وسيلة لنقل الجنود والمعدات العسكرية الإنكليزية
وفعلياً بدأ تنفيذ المشروع في 31 مارس/ آذار 1890 برعاية الشركة الفرنسية حينما وضع كل من محافظ القدس (إبراهيم حقي باشا) ومفتي غزة و(يوسف نافون) بحفل كبير حجر الأساس للمشروع، ومن هنا بدأ المشروع يرى النور، إذ تم إحضار عمال البناء من مصر والسودان والجزائر بشكل أساسي، بينما تمت الاستعانة بالمهندسين من سويسرا وإيطاليا والنمسا، كما شارك الفلسطينيون في المشروع وفقد العديدون منهم حياتهم في حوادث أثناء عمليات نحت وقص وتفجير الصخور للوصول إلى القدس من يافا.
كذلك تم إحضار مواد البناء كالحديد من فرنسا عن طريق شركة إيفل التي يملكها (غوستاف إيفل)، ومئات الأطنان من سكك حديد من بلجيكا، والفحم من إنكلترا، وكان يتم تفريغ كل مواد البناء في ميناء يافا الذي كان يعتبر وقتها ميناء فلسطين الرئيسي، وإلى جانب ذلك كان يتم الحصول على الماء لعمليات الحفر من آبار على طول الطريق من يافا إلى الرملة.
وقد تم إجراء أول محاولة اختبار لسكة حديد يافا - القدس في أكتوبر 1890، التي شاهدها وقتها ما يقارب 10 آلاف متفرج من سكان مدينة يافا، وعندما أوشكت عمليات البناء على الانتهاء تم إجراء أول رحلة قطار تحمل الركاب بين يافا والقدس في 27 أغسطس 1892، وقد استغرقت رحلة القطار ما يقرب من 3 إلى 3.5 ساعات في الوقت نفسه الذي كانت تحتاجه عربة حصان مثلاً للسفر من يافا إلى القدس والعكس، وعند افتتاح سكة الحديد يافا - القدس تمت تغطية الحدث إعلاميا في جميع أنحاء العالم، وكرم يوسف نافون وقتها بمنحه وسام الشرف الفرنسي لمشاركته في إنجاح المشروع، وميدالية عثمانية ولقب باي.
ورغم نجاح المشروع نسبياً واجه بعض التحديات، على رأسها: إذ إن حركة السياحة الأوروبية (التبشيرية أو الاستعمارية) كانت أقل من المتوقع، كما ساهمت القيود العثمانية عام 1894 على الهجرة اليهودية إلى فلسطين بتأثير سلبي على حركة السياحة، وظهرت أيضاً بعض مشاكل الصيانة التي تسببت بتأخير عدد من الرحلات وتمديد وقت السفر إلى 6 ساعات، حيث كان يُسمح لقطار واحد فقط بالعمل في اتجاه واحد كل يوم، ورغم ذلك ساهمت سكة حديد يافا - القدس في تطور الاقتصاد الفلسطيني بسبب زيادة الطلب على نقل البضائع من فلسطين وإليها، وهذا ساهم بشكل أو بآخر في نمو وزيادة عدد سكان المدينة إلى 40.000 بحلول عام 1900.
أيضاً عندما زار (تيودور هرتزل) فلسطين في أكتوبر 1898 لم يكن يرى أن الخط سوف يفيد المشروع الصهيوني في فلسطين في ظل القيود العثمانية، وقد حاول أحد زعماء الصهيونية ويدعى (زلمان ديفيد ليفونتين) شراء خط سكة حديد يافا - القدس في مارس/ آذر 1901، إلا أنه مساعيه لم تنجح.
ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 سيطرت القوات العثمانية على خط سكة حديد يافا - القدس لاستخدامه للأغراض العسكرية كنقل الجنود والآلات والمعدات الثقيلة إلى القدس، وفي خضم انتصارات الإنكليز وتقدمهم في فلسطين في نوفمبر/ تشرين الثاني 1917، قامت القوات العثمانية المنسحبة بتخريب خط سكة حديد يافا - القدس، إذ تم تفجير معظم جسور خط سكة الحديد الرابطة بين يافا والقدس، إلا أن الإنكليز أعادوا بناءه على عجل إثناء الحرب واستخدموا قضبانا ولوازم خشبية بدلاً من الجسور الحديدية المدمرة، ووصل أول قطار إنكليزي إلى القدس في 27 ديسمبر/ كانون الأول 1917، وبعد نهاية الحرب بوقت قصير استخدم خط سكة حديد يافا - القدس لنقل عدد لا حصر له من العائلات اليهودية للقدس.
تعرض خط سكة حديد يافا - القدس لعمليات تخريب من قبل الثوار الفلسطينيين بالألغام والمتفجرات مع بداية ثورة فلسطين الكبرى، إذ شكل الخط وقتها وسيلة لنقل الجنود والمعدات العسكرية الإنكليزية، فقام الإنكليز بتحصين الجسور وزيادة الدوريات العسكرية المنتظمة على طول خط سكة حديد يافا - القدس لصد هجمات الثوار.
خلال الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948 أصبح خط الحديد يافا - القدس خارج الخدمة، وبعد اتفاقيات الهدنة عام 1949 استولى الصهاينة على الخط بالكامل، وفي 7 أغسطس/ آب 1949 وصل أول قطار إسرائيلي محمل بالدقيق والإسمنت ولفائف التوراة تم إرساله بشكل رمزي إلى القدس، ثم بدأت السكة الحديدية الإسرائيلية بنقل الركاب من محطة تل أبيب الشمالية إلى القدس في 2 مارس 1950. وإلى جانب ذلك، تعرض خط سكة حديد يافا - القدس للعديد من الهجمات الفدائية في فترة الستينيات قبل حرب عام 1967.
وفي ظل الاحتلال الإسرائيلي استمر الخط بالعمل دورياً في نقل الركاب والبضائع حتى أوقفه عن العمل في عام 1998 لإجراء بعض الإصلاحات والصيانة فيه، ثم أعيد العمل في خطّ القدس - يافا عام 2005، ولكن دون أن يشمل المسار الأصلي، أما مسار السكة المعطّل فقامت البلدية بتجهيزه ليصبح مساراً للمشي والركض ولهواة ركوب الدراجات اليهود.