حكاية سلمون والرفيق مَزْلَقان
استمتعنا، نحن رواد سهرة الإمتاع والمؤانسة الإسطنبولية، بالحكايات ذات الطبيعة السياسية التي استغرقت بضع سهرات. وقررنا، بناء على رغبة السيدة حنان، أن نعود إلى سيرة الفتى الأهبل سلمون الذي كنا مستغرقين في حكاياته قبل ذلك، فالحكايات السياسية، برأيها، جميلة، ولكنها مؤلمة.
قال أبو محمد: فكرة كويسة. خلونا نرجع لسلمون.
كمال: بعد حادثة نطح التيران لسلمون، قررْ أبو سلمون إنّه يتركه قاعد في البيت بلا شغل، لحتى تجيه مهنة خفيفة ونضيفة، ومريحة، وما فيها مخاطر. وبالفعل، بقي سلمون في البيت، وصار يمسح الأرض، وينضف الشبابيك، ويتفقد المؤونة، ويسجل على ورقة زغيرة لوازم الأكل والشراب، وأحياناً ياخد مصاري من أبوه ويروح ع السوق ويشتري خضار وفواكه ويرجع.. لوقت ما حدثت شغلة بتشبه المعجزات.
الأخ "أبو رستم"، صاحب مكتب النزاهة العقارية، دق الباب، وطلب مقابلة أبو سلمون وابنه. وبمجرد ما قعد على الصوفة سارع لفتح الموضوع اللي إجا منشانه، قال إنه بيتمنى يشتغل عنده سلمون في المكتب العقاري بصفة عامل تنظيفات وبوفيه. ومن قبيل التشجيع قال:
- الشغل عندنا خفيف ونضيف، بتقعد يا سلمون في المكتب من الساعة عشرة الصبح للساعة تنتين بعد الضهر. وبوقتها منقفل المكتب، ومناخد استراحة غدا. ومنرجع المسا، الساعة ستة، منفتح ومنقعد، وبهالفترة بيبدا شغلنا. إنته لما بيجينا زبون أو أكتر بتضيّفهم قهوة مرة، وكاس شاي.. ونحن صحاب المكتب منلعب بعقل الزبون ومنقنعُه إنه يشتري ولا يتردد، ولما بيوقع تحت الضرب، وبيشتري بيت أو كرم أو دكان، ومنكتب العقد، ومناخد عمولتنا، ومنقلُّه (لا تنس الشَغّيل يا معلم)، بيشيل مية أو ميتين ليرة وبيعطيك ياهن، هاي بيسموها بخشيش أو إكرامية. هيك بتصير يا سلمون متل المنشار، إذا تحركت لقدام بتقصّ، وإذا رجعت لورا بتقص. فهمت بقى أشو شغلك؟
ضحك سلمون وقال: فهمت. شوفور صينية!
استغرب أبو سلمون تعليق ابنه وسأله:
- أيش بتقصد ولاك حمار؟ أشو يعني شوفور صينية؟
قال أبو رستم: أنا فهمت عليه. خلص خيو، اعتبر حالك شوفور صينية. بتستفيد مصاري، وبنفس الوقت بيصير عندك خبرة، وبتتعرف على كل أهل البلد، وبتشوف كل واحد منهم أيش مشكلته، وأيش علته، يعني بتتثقف.
أبو سلمون: طول بالك يا أخي أبو رستم. أنا ما عندي مشكلة إنه إبني يشتغل عامل بوفيه وتنضيفات في المكتب، بس ما بوافق يشتغل شوفور على سيارة كبيرة (صينية). هادا إبني ما بيعرف يسوق سيارات، بلكي دَهَس حدا، أو ضرب السيارة الصينية بشي حيط؟ بترجاك سكّر لي هالسالفة.
ضحك أبو رستم وقال:
- يا عمي أبو سلمون هاي العبارة بيقولوها الناس من باب المزح والتقريق. إبنك بعدما يغلي الشاي، بيحط الكاسات في (صينية) ألمنيوم، وبيروح لعند الزباين لحتى يضيفهم شاي، منشان هيك بيسموه "شوفور صينية".
قال سلمون: خلص عمي أبو رستم. توكلنا على الله. أنا بشتغل شوفور صينية ما عندي مشكلة.
قال أبو سلمون مبتسماً بعدما استوعب المزحة:
- طالما هوي موافق، أنا ما عندي مشكلة. بس إلي عندك طلب زغير يا خاي أبو رستم.
- تفضل.
- خلي سلمون عندكم بفترة الغدا بين الساعة تنتين والساعة ستة.
- ليش خاي؟
- ما في شي. بس أنا بحب إبني يبقى بعيد عني فترة طويلة، حتى إشتاق له!
وضع سلمون يده على صدره لإبداء المزيد من الاحترام وقال:
- تشتاق لك مكة المكرمة يا والدي العزيز أبو سلمون!
في اليوم الأول، عقد أبو رستم وشريكه أبو سلمان اجتماعاً مغلقاً مع سلمون، وأعلماه أنّ عامل التنظيفات والبوفيه في أي مكتب عقاري يجب أن يكون له لقب، للتمييز، ويكون أحسن من مخاطبته باسمه الحقيقي، وقال أبو سلمان، بطريقة تقوم على التنكيت المبطن:
- نحن اللي منشتغل في المكاتب العقارية كلياتنا إلنا ألقاب.. أنا مثلاً بينادوا لي "طَقّ مْصَدّ" وشريكي أبو رستم بينادوا له "الملوفك"، والشغيل اللي كان يشتغل عندنا في البوفيه قبلك كنا نسميه "الكر"، وقدام الزباين كنا ننادي لُه "الغزال"، لأنه مو حلوة كلمة كر.. وأنا لما قال لي أبو رستم إنك جاية تشتغل عنا فرحت كتير، وخطر لي اسم كتير بيلبق لك، قلت لحالي منسميك "مَزْلَقَان".. بقى أشو رأيك؟
قال سلمون وهو يكتم ضحكة ألمت به: مَزْلَقَان مَزْلَقَان. على خيرة الله.
قال أبو سلمان: كمان سؤال. بتحب نقلك سيد؟ ولا رفيق؟
سلمون: رفيق أحسن. متل أعضاء شعبة الحزب.
فتح أبو رستم درج المكتب، وأخرج مجموعة من المفاتيح وسلمها لسلمون وقال له:
- تفضل يا رفيق مزلقان. هدول المفاتيح بيبقوا معك. وهادا المكتب اعتبره مكتبك. لازم يبقى نضيف ومرتب، ودائماً إنته موجود فيه. ومتلما قال والدك، ما في داعي تنصرف منشان الغدا، نحن كل يوم منشتري لك سندويشة، واضح إنه والدك بيحبك كتير، بيريدك تبقى بعيد عنه حتى يشتاق لك!
سلمون: إن شاء الله تشتاق له مكة المكرمة لوالدي.
قال أبو محمد: أنا بتوقع إنه انتقال سلمون للعمل في المكتب العقاري راح يخلينا نسمع قصص جديدة عنه.
قال كمال: نعم. وأول بوادر الخير في أول يوم شغل. مع إنه سلمون ما عنده أي فكرة عن عمليات البيع والشراء، بس متلما كنا منتوقع، لا بد ما يحشر نفسه بطريقته المعهودة. المهم، في فترة الغدا تفاجأ سلمون بأبو عمشو "صاحب المبقرة" مارق من قدام المكتب بسيارته (البيكآب الزراعي). أبو عمشو كمان تفاجأ وقال له: سلمون؟
رد سلمون بنوع من الاعتداد بالنفس:
- عفواً. أنا الرفيق مزلقان. قلي بأيش ممكن إخدمك؟
كاد أبو عمشو أن يفرط من الضحك. نزل من البيكآب وأجا لعند سلمون. سلمون قال له: دقيقة. وراح قعد ورا طاولة المعلم، وفتح الدفتر، وقال له:
- هات لأشوف يا أبو عمشو.. أشو مواصفات المبقرة اللي بدك تبيعها؟
فتح أبو عمشو عينيه من الدهشة، وقال: المبقرة؟
سلمون: أي المبقرة، لك عمي بيعها واخلص منها. ترى في تحت إيدي زبون بيشتريها بسعر كويس. أشو قلت؟
ضحك أبو عمشو وقال: أنا بعرف إنك أهبل، وحمار، وراسك يابس، وغليظ.. بس بحياتي ما توقعت شوفك سمسار.
ووقف يريد أن يغادر، فقال له سلمون:
- اقعود بس دقيقة. أنا حاطط الشاي ع النار. منشرب شاي ومنحكي.