حياة معلقة على مشجبِ انتظارَك
رأيت جسدي المتعب من معركة البارحة ملقى على الأريكة بفوضوية غير معتادة. بدا لي شاحباً، كما لو كان جثة خالية من الحياة، فتذكرت حينها أنني عائدة لتوي من حرب ضروس، حيث أقف كشاهدة وحيدة في محكمة التاريخ، أخفي عن الناظرين تسلّلي الزمكاني إلى تفاصيل المعركة، فيضطرون لمواجهة بوحي الأخرس، أعزل.
هنا لا سبيل للعبور سوى الذاكرة، بعيداً عن أنظار شرطة المرور. بوحنا هنا، كالحب في الخفاء، كعبادة الماضي وتقديس النسيان، لهذا أعود من حين لآخر لأيام خلت، حيث النشوة على قدر الألم. حبّك العنيف الذي يهوى الاستعلاء على عفة الهيام وبراءته، حبّك الأناني الذي ينفجر غضبه المهيب كالبركان كلّ خمس ثوانٍ، حبّك هذا هو الألم الذي يمدّني بفائض من النشوة، ونشوة الألم الذي يرافق وجودكَ السادي هي معركتي وحربي الضروس.
أنا امرأة قضت حياتها معلّقة على مشجب انتظارك، أنا معطفك المهترئ الذي مللته، أنا ذاكرتك التي تحارب النسيان فيك، أنا المفعول بها في فلك اللغة وأنت الفاعل إذ تُبكيني، وتعيد تسمية روحي، وتمتص غضبي.. تحتويني. أنت الفاعل إذ تطرق باب حياتي كلّما أصابك الملل ووضعتك هي في لائحة الانتظار، أخدع نفسي باعتناقي مذهب انتظارك، أرهف السمع كلّما تعالى وقع خطواتك ليتبيّن لي في كلّ مرّة أنك صوبها متجه. توهمني حينًا أنني وحيدتك، وأنني إلى فؤادك أنتمي، حتى ما ظلّ لي عنوان واستيقظت ذات يوم وأنا طريدة حبك، أطلب صدقات غيرك من المحبين، وأخفي خيبتي بابتسامة ساذجة، كأنّ صدك لا يمزقني، كأنّ هجرك لا يحيّرني، كأنّ تقلباتك لا تدفعني نحو ناصية الجنون. وتعود لي خائبًا للمرة الألف متوقعاً مني استقبال المخلصين، وتجعل من حبي منتجعاً للنسيان. أتراك نسيت أم تناسيت أنْ للحب عدّاداً يتوقف بنفاد قدرتنا على الصبر، وقدرتي على تحمل المد والجزر قد انتهت بغرقي في بحر حبك.
قدرتي على تحمّل المد الجزر قد انتهت بغرقي في بحر حبك
ها هو ذا قلمي يغويني من جديد، يجعلني أكتبكَ غصبًا عني، ويفضح شهقة قلبي بلقياك، يزيل الستار عن ضعفي في حضرتك. قلمي هذا ما عاد رفيقي في الأدب ولا شريكي في الكتابة، بل صار لك حليفًا ولأوامِرِكَ مُلَبِّيًا. قلمي الذي شهد شروق أفكاري، ما صرت آمن معه على أسراري، لأنني أدرك جيدًا أنه على استعداد لأن يشيَ بي. قلمي الذي كتب قصص الثائرين، بات يثور عليَّ لأجلك، وأنا قررت أن ألوذ بالقمع كما أنظمتنا العربية. وبعد أن جَفَّ دمع عيني، أصبح قلمي يبكيك حِبْرًا. ها قد خانني قلمي وظل وفيَّا لذكراك، أتُراكَ في أكثر من هذا تطمع؟
أمسك قلمي لأهرب منك، وإذا بك تخرج من القلم كجِنِّي في مصباح علاء الدين، أجد نفسي أخطك بيدي على صفحات مفكرتي وأراكَ بوضوح حينها. تصبح كائني الحِبْري، أحارب بكَ جيوش الاستعمار، وبك أنتصر على العدو وأعمّر الوطن وأفتح القدس، لأقَعَ في حب نسخة منك، لست تشبهها في شيء. ساذجة كنتُ وأنا أمني بك نفسي، كم بدوت صعب المنال، شامخًا بعيدًا عن واقعي، ونسيت في خضم الكتابة أنك جئت من رحم حبري وأنني من وهبَتْكَ الحياة.. كتبتك ما عرفتُكَ.. أنت الحلم ابن الخيال.
نسيت في خضم الكتابة أنك جئت من رحم حبري وأنني من وهبَتْكَ الحياة... كتبتك ما عرفتُكَ... أنت الحلم ابن الخيال
يتراقص جسدي في حركات لاإرادية، وما هي إلا دقائق قليلة منذ بداية طقوس الرثاء هذه حتى أفقد السيطرة بشكل كامل على بدني، جسدي الذي احتوى روحي لأكثر من ثلاثين سنة، جسدي الذي تلبسه طيف الأسى ليسمح لكلّ مشاعري التي أصررت على إنكارها بأن تجد مخرجًا من سجنها المقفر. يومها، أنجبت حزني وحريتي، صرت أما.. وأخيرا فعلت الأمر الذي عيّرتني بعدم قدرتي على القيام به.
إن باغتتك ذكرياتنا وأنت في خضم الحياة تتأرجح بين يأس وأمل فلا تقارنني بمن حولك، بمن اتخذتهم مني حبلك للنجاة، وبتّ بهم غريقًا لم يلفظه البحر بعد. ألقاك في الشاطئ في ضيافة الرمال، بعد فرحة وحزنين.. لتكون حزني الثالث.
بين الحب والمجون مسافة لا تقاس، وأسئلة مستباحة لا يتجرّأ على طرحها أحد. بين الحب والجنون وعود خلقت لتخلف، وكبرياء واعتزاز بالنفس، وغيرها من أمور تغتال حرمة الهيام في عقر دارها. بين الحب والسكون أفكار تعتمل في العقول، توقظ الضمائر من سباتها لتثور في وجه الإهانة. بين الحب والفراق كلمة أو اثنتان، أو مسافة الطريق من خط البداية إلى الشقاق، وعهد كاذب باللقاء. تحملنا ريح الحب نحو مدينة الخطايا، فنتطهر من حب كما من جريمة. لم يبق مِنَّا سوى رماد أيام خَلَت قد أحرقناها فاحترقنا بنارها، وذكريات يتيمة دفنها النسيان، وأخرى عوّضتها الحياة في مدينة يهجو أهلها الحب ثم يبكون الفراق سرًّا. ها نحن نقتات على الأفراح الصغيرة لننسى فرحة العمر المسلوبة، نرقص على إيقاع أغنية الوداع رقصتنا الأخيرة. يتعجب الناظرون من سعادتنا ونحن على مشارف الفراق، ذلك أنّ الحب حلم كبير وما الفراق إلا لحظة استيقاظ، لذا نحن لا نبكي حلمنا بل نمنّي أنفسنا بحلم جديد.