"حيزية" وعوالم واسيني الأعرج الروائية
في إطار المهرجان الثقافي الوطني لأدب وسينما المرأة، الذي أقيم في مدينة سعيدة الواقعة في الغرب الجزائري في طبعته السادسة، نُظّمت جلسة أدبية وفنية متميّزة بدار الثقافة/ مصطفى خالف، يوم 15 سبتمبر/ أيلول 2023، أدارها باحترافية بارزة الكاتب والناشط الثقافي عبد الرزاق بوكبّة، وقدّم فيها الأديب الكبير واسيني الأعرج، على امتداد ساعتين، حديثاً يجمع بين البوح والسيرة الأدبية والاهتمامات الفكرية والثقافية التي شغلت الكاتب منذ ولوجه عالم الكتابة.
كما خصّص الكاتب مساحة هامة من مداخلته للظروف والملابسات التي واكبت كتابته لروايته الجديدة حول "حيزية"، أيقونة الحب في التراث الثقافي الجزائري، وهي الرواية التي سوف تكون حاضرة في المعرض الدولي للكتاب في العاصمة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وكانت الجلسة حميمة بتفاعل الجمهور، حيث برع واسيني بطرح أفكاره وهمومه الثقافية عن طريق الحكي العفوي، ما زاد من تألقه في تلك الجلسة التي لم يبخل فيها على مستمعيه بالكشف عن عنوان روايته التي أثارت جدلاً كبيراً قبل صدورها، وقد كانت عتبة الرواية أكثر إثارة "حيزية زفرة الغزالة الذبيحة".
وتشكّل المرأة، على ما يبدو، مركز الثقل في العملية الإبداعية لدى الكاتب، ويظهر ذلك جليّاً في حكاية طفولته التي كان أبطالها نساء كانت لهنّ البصمة القوية على شعور الطفل وذهنه، حيث أَثرين عالمه الرمزي، وكانت بذلك كلّ من الجدّة والأم والأخوات المنجم الرئيس للعاطفة والخيال وعوالم الحكي، والتي تحوّلت مع الوقت إلى مادة لمجموعة كبيرة من الروايات كُتب لأغلبها النجاح على المستويين المحلي والعربي.
والملاحظ أنّ واسيني لم يشذّ عن القاعدة في تبوّؤ المرأة المكانة اللائقة في السرد الأدبي العالمي، فقد كان حضورها في نصوص الآداب العالمية مركزياً، تجلّى من خلالها جمال الكون والطبيعة، كما جاء حُضورها معبّراً عن أزمة الوجود ومشكلة الشرّ والإثم، إذ شاركت الرجل واقعة السقوط إلى الأرض، موضع الرغبة والامتحان، كما تشير إلى ذلك الأديان والأساطير.
يكتب واسيني عن المرأة الجمال والحبّ، وعن المرأة الجرح والمعاناة، ومن ورائها يطرح وضع الإنسان في هذا العالم
ورغم الغياب النسبي للمرأة في سرديات التاريخ الفلسفي الذي احتكرته أسماء منذ ما قبل سقراط إلى أفلاطون وأرسطو مروراً بالقديس أوغسطين وتوما الإكويني والكندي وابن سينا وابن رشد، وصولاً إلى فريدريك هيغل وإيمانويل كانط وبيرتراند راسل.. ومثله التاريخ العلمي: فيثاغورس، إقليدس... مروراً بغاليلي وإسحاق نيوتن، وصولاً إلى تشارلز داروين وماكس بلانك وألبرت آينشتاين.. إلّا أنها حرّكت مياهً سردية لا تقلّ خطورة في سياق الحياة البشرية التي لا تزال حبلى بالألغاز والمشكلات، فكانت الأنثى حاضرة في الأساطير والملاحم الكبرى والتراجيديات العالمية، وصولاً إلى الروايات في العصر الحديث.
تُواجه المرأة بواسطة الأدب والفن غيابها التاريخي في دوائر أخرى من الممارسات البشرية، مثل التأمّلات العقلية المنصبّة على الظواهر الكونية أو إنتاج المعارف العلمية. ولكنّها سكنت منطقة أكثر خطورة لدى الإنسان، وهي ساحة الشعور والعاطفة، حيث مركز الرغبة البشرية، ويحدث أن يثور القلب على العقل كما حدث في أوروبا في المرحلة الرومانسية، أو يزيحه إلى مرتبة أدنى مثلما تعبّر عنه الأدبيات العرفانية والصوفية في البيئة العربية.
يكتب واسيني عن المرأة الجمال والحبّ، وعن المرأة الجرح والمعاناة ومن ورائها يطرح وضع الإنسان في هذا العالم، وبخاصة الإنسان العربي في مواجهة مشكلاته الاجتماعية والحضارية، حيث تحضر المرأة في جلّ العتبات الروائية لدى الكاتب، فضلاً عن قضاياها الرئيسة التي تتخلّل نصوصه: مصرع أحلام مريم الوديعة (1984)، رمل الماية (1993)، سيدة المقام (1995)، حارسة الظلال (1996)... ومع آخر نص حول "حيزية.." يقوم الكاتب بالحفر، وليس النبش (على حدّ تعبيره)، في كلّ ما يتعلّق بهذه الشخصية من الناحية الجغرافية والتاريخية، ويبحث في مخطوطات القصائد التي تغنّت بها. والجميل والطريف في ما صرّح به الكاتب هو زيارة قبر "حيزية"، والمنطقة التي عاشت فيها ومقابلة عجائز تفوق أعمارهن التسعين سنة حكوا له بعض التفاصيل عن حياتها التي تحوّلت مع الوقت إلى أسطورة طبعت تلك المنطقة.
ما أثاره الكاتب في هذه الجلسة حول هذه الرواية سيرفع منسوب الشغف بمضمون الرواية، وإلى حين صدورها يبقى أفق الانتظار في اتساع بين الأحلام والأوهام.