حين أكل الشيطان ما أراد

02 نوفمبر 2024
+ الخط -

عدنا من السوق، عبر تلك الطريق المُحَفَّرة، ثم سرنا عبر ذاك المسرب الطويل المعتاد حتى آخره، لننعطف يمينًا في اتجاه حقلنا، تاركين ذلك الضريح الصغير في أعلى التلة على يسارنا.

 كان خطو جدتي بطيئًا جدًا وهي تمسكني من يدي، ممّا جعلني أخطو ثلاث خطوات في خطوةٍ واحدة لأتسلّى، وقبل أن تكمل جدتي خطوتها، أكون قد خطوت تلك الخطوة وعدت إلى الوراء بخفّة وأعدت الخطوة نفسها إلى الأمام.  وجدتي لا تنهرني، بل تمسكني جيّدًا من يدي كي لا أقع فوق التراب وتتسخ ثيابي فتسلخني أمي بزلاّط (عصا) الزيتون.

خاطبتني جدتي مُشيرةً بعكازتها إلى نقطةٍ غير محدّدة في السماء بعد أن وقفت قليلًا لتلتقط بعض أنفاسها: لو لم نكن قد تأخرنا لصعدنا التلة إلى هناك لنزور ضريح سيدي عبد المالك قبل أن نعرّج على الخيمة، فمن العيب الكبير مرورنا بمحاذاته وإعطاؤه هكذا بالظهر.

تذكرتُ ذلك الضريح الخالي من أيّ تسليّةٍ، تذكرت عتمته الباردة، اللون الأخضر الغامق للإزار فوق القبر، الصندوق الداكن الكبير، والقطّة المسكونة بالجن التي تتمسّح بالعتبة الترابية وتموء في أحلام الزوّار، وحارسة الضريح العجوز الدرويشة التي تشعل الشمع بيدين راعشتين، وتُحرّك المال القليل في الصندوق، وليس عندها أحفاد، وحين تقابل الشمس الحارقة باب الضريح، تجر هيدورتها (زربية فراء الكبش) لتجلس متربّعةً في ظلٍّ شجرة التين المسحورة العملاقة الخالية من أيّ تين أو عصافير، والمليئة فقط بالتمائم.

أخبرتني جدتي ونحن نهمّ بمواصلة المسير: حين تكبر وتشتغل عليك أن ترسلني في الطائرة إلى الحج. 

أجبتها: سأشتغل في العسكر.

مسدت شعري الكثيف بأصابعها الشبيهة بأغصان شجرة جافة وقالت: أفضل عمل للرجل هو العسكر.

أخرجتُ الحمّص من جيبي، تأملته فوق كفي، قلت في نفسي مستغرباً: كيف يكون الشيطان قد أكله ورغم ذلك ها هو أمامي؟

قلت لها متسائلًا باندهاشٍ كبير، متطلّعًا إليها وليس إلى الطريق: لكن ماذا يفعلون هناك في العسكر؟

كحت وعدّلت درّتها على خدها وسدّدت عكازتها في الهواء كبارودة ثمّ قالت: يشتغلون في الڭيرّة (الحرب).

أردت أن أسألها ما هي الڭيرّة، وما هو الحج، وهل الطائرة ضريح بعيد خلف تلك الجبال؟ لكني تعثرت وكدت أسقط لولا أنّها أمسكتني، فلم أسقط بل سقط فقط "حمّص كَمُونْ" من كاغد القوقعة الذي كان في يدي الأخرى وتشتّت وتدحرج فوق التراب حتى صار أحمر. هممت بالقفز فوقه بحركةٍ لاإرادية لأجمعه وأعيده حبّةً حبّةً، لكن جدتي لم تترك يدي، بل سحبتني إليها بحنّية صارمة وقالت بصوتٍ خال من الأسف، وبحيث صار صوتها المحايد والحكيم هو الأسف عينه: اتركه، السوق القادم أشتري لك غيره، اتركه، فقد أكله الشيطان.

قلت لجدتي بعد أن ابتعدنا بخطوات: حسنا، دعيني أجمعه، لن آكله، سألعب به اللّبي (الكرات) فقط.

تركت يدي بعد تردّد قصير، فعدت راكضًا كالسهم، انحنيت وحرّكت يدي فوق التراب حركات سريعة كأنها كتكوت جائع ينقّب الزرع حتى ملأتُ جيبي بحبات الحمّص.

استقبلتنا كلابنا مرحبةً بنا، محرّكةً ذيولها بطريقةٍ سخيفة. طردتها جدتي بعكازتها، فركضتْ بعيدًا مطاردةً الغبار لتختفي خلف شريط الصبّار وهي تنبح. توجّهت جدتي ببطءٍ إلى الزريبة لتطمئن على شيءٍ ما تاركةً يدي، وهي تكلّم نفسها بصوتٍ نصف مسموع وتطوي أكمامها بعد أن خلعت جلاّبيتها.

ركضتُ في الاتجاه الآخر، إلى خلف الكُورِي (الإسطبل). جلست فوق التبن مفرّقًا رجلي وناظرًا إلى البعيد بتأمّل، كانت هناك سحابات بيضاء صغيرة في الأفق ولقلق وحيد يحلّق في علوٍّ شاهق مبتعدًا ببطء، قلت في نفسي بعزم وتصميم: حين سأكبر سأشتغل في الڭيرّة.

أخرجتُ الحمّص من جيبي، تأملته فوق كفي، قلت في نفسي مستغربًا: كيف يكون الشيطان قد أكله ورغم ذلك ها هو أمامي؟! 

مسحت واحدة في سترتي وتذوّقتها، وجدت طعمها لذيذًا، بلعتها، انتظرت لحظة كي أرى ماذا سيحدث لي. لم يحدث لي أيّ شيء!

مسحت "الحمّصات" واحدة تلو الأخرى وأكلتها متمعّنًا في طعمها الغريب، الشبيه بسقطةٍ من السور فوق التراب على الذقن، باحثًا بلساني عن حبّات ترابٍ لأبصقها بعيدًا، مُغمضًا عيني من النشوة. لم أستطع فتحهما وأنا أمضغ، صار جفناي ثقيلين جدا، كأنّي غفوت قليلًا رغم أنّي مستيقظ، متكئًا على الحائط، كأنّي نمت لأيام، وحلمت، وتقلبت في نومي، وسقطت من حافة الكارّو (العربة) أرضًا، دون أن يراني أهلي، نسوني هناك نائمًا في خلاءٍ بعيد وسط نباتات الشوك والجرنيج التي علقت أشواكها بسترتي وسروالي وأصابعي... وحين استيقظت بصعوبة بعد نوم طويل، فتحت عيني، فلم أجد نفسي في زريبتنا، بل كنت في باب الضريح، واقفًا على العتبة الترابية، وقد نبتت لي أذنان طويلتان في رأسي شبيهتان بقرون الشيطان، وصار لي ذيل، وحافران سحريان عوض قدمي، ولم أبدُ مرئيًّا سوى لقطّة الضريح المسحورة.

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.