خاطرة من رحم زلزال الحوز
بينما كانت الأيام تمرّ علينا بإيقاعها الرتيب، كئيبة اللحظات، ليلها كنهارها، أجوف وفارغ، لا ينقضي إلا ليخلّف مزيداً من الثقل والكسل فينا... كنّا ندور في حلقة مميتة من الساعات المتشابهة المتكرّرة، عاجزين عن رؤية ما يدعو إلى الدهشة، وعن استشعار طعم خاص نُضفيه على الثواني التي تمضي تاركة إيانا دون أن نكون قد عشناها بعد. بينما كانت تتوق الأنفس إلى شيء جديد يرفع عنها عناء هذا التكرار السيزيفي الممل، والذي لا يحتمل، وينهي هذا الفراغ الأسود الذي يعذبها... حصل ما لم يكن في الحسبان، حدث مفاجئ وغير مسبوق في بلدي المغرب، حيث فاجأنا زلزال مدمّر يوم الجمعة 8 سبتمبر/أيلول 2023 بعد الحادية عشرة ليلاً.
ضرب الزلزال قريباً جداً من بيتنا في جماعة أوريكة بإقليم الحوز، وسط البلاد، قبلة عشاق الجبال والوديان والخضرة ومحبّي الحياة الهادئة. كنت وباقي أفراد أسرتي جالسين نتسامر، منشغلين باستعادة أحداث اليوم التي لا تنتهي. كان كلّ شيء يسير على أحسن ما يرام؛ الجو هادئ حيادي كما ينبغي أن يكون، العالم يتحرّك بفتوره الطبيعي المعتاد في الداخل والخارج، ولم توجد إشارة واحدة تنبئ باقتراب كارثة، ولا نسمة عابرة تحذّرنا من هول ما سنراه في تلك الليلة.
بدا أنّ المصاب الجلل حدث على مراحل، انقطع التيار الكهربائي في البداية، ثم شعرنا بتحرّك الأرض تحت أقدامنا بشكل طفيف، قبل أن تبدأ الأشياء في السقوط مصدرة ضجيجاً مهولاً في كلّ مكان. ثم استمرت الأرض في التحرّك بشكل أعنف فحرّكت معها الجدران وارتعشت لها الأبدان، شعرنا بأنّ المنزل بأكمله سيُقتلع من مكانه. وحين يدرك الإنسان أنّه عاجز عن تثبيت قدميه على الأرض يتملكه الهلع، فيقبل الموت من مكان غير بعيد، ولا يعرف الإنسان في خضم كلّ هذا، إن كان سيظفر بروحه أم سيخطئها. استمرّ الزلزال لثوان فقط كان لها طعم دهر من الرعب. نجوت ونجا أهلي وقريتي بأعجوبة، لكنّ الزلزال زرع فينا أسئلة كبيرة عن الحياة والموت والقدر.
الآن وأنا جالسة أكتب هذا النص، يمكنني أن أقول إن الموت قد ضلّ طريقه إليّ ذاك المساء. ولكنه مع الأسف لم يعد خالي الوفاض تماماً، فكم من طريق أضيئت له في تلك الليلة! حادث أليم، ومحنة شديدة ألمّت بالمغاربة، برهنت على روح التضامن والاتحاد فيهم، وهزّت العالم مستحوذة على اهتمامه وتعاطفه.
تتعدّد القصص وتختلف، لكلّ منها بدايتها ونهايتها وراويها. بل إنّ هناك روايات كثيرة لنفس القصة؛ سمعت ممن جالسني من أهلي لحظة وقوع الكارثة أحداثاً تختلف تماماً عمّا قد سجلت ذاكرتي أنا. تضيع الحقيقة ولا يصبح لها أيّ معنى في مثل هذه الحالات، مع تعدّد الروايات. هذا هو الإنسان؛ لكلٍّ مشاعره التي رأى بها ما حصل، لكلّ هواجسه التي خطرت له في تلك اللحظات العصيبة.
هل دام الزلزال حقاً بضع ثوان أم بضع سنوات ضوئية؟! مع أنّه سؤال قد أجيب عنه بالفعل، إلا أنّنا لا نستطيع أن نجزم مع ذلك بشيء ما دام السؤال الأكبر معلّقاً: ما الزمن؟
هنالك دوماً إمكانية لأن ينجو الإنسان عن طريق الشعر، حتى في لحظات الخوف والقلق الكبرى
بالنسبة لإنسان يشعر بأنّه يحتضر، لإنسان ينتظر فحسب، دون أن يصاب (أثناء هذا الانتظار) بهوس رصد الاحتمالات الكثيرة لهروبه، ودون أن يشغل نفسه بتحديد الشيء الذي ينتظره حقا، إن كان الموت أم النجاة... وبالنسبة لإنسان عايش الوضع بالطريقة "نفسها" التي عايشتُها به، فإنّ الزلزال يدوم مدة كافية ليستطيع المرء استرجاع حياته الصغيرة والبسيطة كلّها أمام عينيه.
قد يسأل المرء نفسه: هل أنا مستعد للموت؟ وحتى لو لم يعتد أن يجيب على مثل هذا السؤال فيما مضى، فهو، استثناءً، سيهمّ بالإجابة عن هذا وبسرعة، لئلا تتسرّب إليه الرغبة الحمقاء في التصدّي لقدره، في التمرّد على ما لا يُتمرّد عليه، إذ هو يعلم أكثر من أيّ وقت مضى، أن لا هروب من الموت.
يودّ لو يؤكد ذاك الكلام، لو يمحو أداة الاستفهام ويترك الجملة حرّة لتنتفض وتهرول كما تشتهي. ولكن ماذا يفعل بالذاكرة؟ هنالك كتاب لم يكمل قراءته، وجهة لم يزرها بعد، كلام ما يزال عالقاً في حلقه، وربما كذبة صغيرة تطلّ عليه من إحدى الأمسيات. إذ ذاك يفقد شجاعته، ويدرك بأنّ الإنسان لا يكون أبداً مستعدا للموت. وكم يسيء هذا إلى قلبه الصغير الذي يرتجف!
يحاول جاهداً أن ينجو من هذا السؤال الطائش الذي طرحه. يستبدله دون أن يدرك بأنّه يضع نفسه في مواقف أكثر تعقيداً، ولا يستوعب هذا إلا عندما يهيمن السؤال الجديد على تفكيره. يهجس: ما الموت؟ وحين لا يجد جواباً يستحضر أبياتاً من قصيدة لمحمود درويش: "الموت لا يعني لنا شيئاً. نكونُ فلا يكونُ. الموت لا يعني لنا شيئاً. يكونُ فلا نكونُ".
ما معنى أن يعيش الإنسان حياة بأكملها إن لم يستطع أن يجد، ولو شيئاً واحداً، يتذكره في لحظة موته ليقدّم له العزاء؟
يقول المرء في نفسه: لو كنت شاعراً لخرجت من هذه الكارثة بصيغة لغوية مبهرة كتلك. وبما أنّه ليس كذلك، فهو بالكاد يفلح في تذكر بعض الأبيات التي يحفظها. وإذ تُقدّم له نوعاً من العزاء، يقرّر بأنّ هنالك دوماً إمكانية لأن ينجو الإنسان عن طريق الشعر، حتى في لحظات الخوف والقلق الكبرى.
كثيرة هي الاحتمالات التي تنفتح أمام الإنسان حين يصل إلى هذا الحد. فلو كان محظوظاً بما فيه الكفاية لانتشله أحد من غفلته وهرب بعيداً لكي ينجو. ولو لم يكن محظوظاً بما فيه الكفاية، لملّ الجدار الوقوف ولمال على رأسه، أو لجعلته إحدى شظايا الزجاج التي ضلّت طريقها في الظلمة، يقضي ما تبقى من الليل، يبحث عن ذراعه.
أما إن لم يكن من هؤلاء ولا من أولئك، فسيستمر في التفكير إلى أن يطلّ عليه قدره: أحياناً تبدو الحياة وكأنّها مجرّد استعداد للموت. إن كان الأمر كذلك بالفعل (وهو ما قد يشعر به المرء في مثل هذه اللحظة)، فما معنى أن يعيش الإنسان حياة بأكملها إن لم يستطع أن يجد، ولو شيئاً واحداً، يتذكره في لحظة موته ليقدّم له العزاء؟ ما الغرض من حياة لا تعلّمنا كيف نتقبّل الموت وكيف نسير إليه، راضين قانعين، باعتباره مصيرنا الأزلي الذي لا محيد عنه؟ فيما يكون الإنسان قد قضى حياته إن هو عجز عن مواجهة الأسئلة الكبرى في مثل هذا الوقت؟
بائس من لا يستطيع أن يجد الأجوبة في مثل هذه اللحظات. فإن نجا، قضى ما تبقى إلى موته الفعلي، خائفاً من ألّا يجد أبدًا ما يبحث عنه. وإن مات، فما الذي عساه يُقال؟