خالد خليفة والأصدقاء الحلبيون
في أواخر السبعينيات بدأتُ الكتابة، عشقتُها، أولعتُ بها. كان ثمّة شعور يملأ عليّ كياني، بأنّني يجب أن أقرأ، أن أطلع، أن أعرف، أن أتعرّف إلى كلّ الذين يكتبون، أو يبدعون، في كلّ مكان، لأنّني قرّرتُ... نعم، قرّرتُ أن أكون كاتباً.
كنّا، يومئذ، نؤدي الخدمة العسكرية في منطقة قريبة من مدينة حمص، أكثر من مائة رجل، من حملة الشهادات الجامعية، في مهجعين متجاورين، قادمين من مختلف المدن والأرياف السورية، بعض هؤلاء كان ذا صلة بالكتابة. في إحدى الجلسات المسائية قدّم لي أحدهم فكرة أعجبتني، قال لي:
- أنت من إدلب. حلب قريبة منكم، وفيها جو ثقافي جيّد جداً.. لماذا لا تتواصل مع كتابها، وتدخل في أجوائها؟
لم تكن تلك النصيحة، بالنسبة إليّ، عابرة، بل سحرية، ذهبية.. وبالفعل، بعدما سُرّحت من الخدمة العسكرية، في مطلع 1980، واستقريت في مدينة إدلب، صرت أذهب إلى حلب، مرّتين، أو ثلاث مرّات كلّ شهر، لا لشيء سوى اللقاء مع كتّاب حلب. وكان هذا الأمر سهلاً للغاية، لأنّ كتّاب حلب لهم مركز ثابت، مقهى القصر، في وسط المدينة، بالقرب من سينما أوغاريت، إليه يأتون تباعاً، كلّ واحد بحسب الوقت الذي يفرغ فيه من أشغاله، وكلّ ستة، أو سبعة، أو عشرة كتّاب، يتجمعون حول إحدى الطاولات، وليد إخلاصي، وفؤاد المرعي، وعبد الرزاق عيد، وعبد الفتاح قلعجي، وعمر ألتنجي، ويوسف طافش، وعصام ترشحاني، ومحمد أبو معتوق، ومحمود علي السعيد.. ومن الذين يقاربونني في السن، أو أصغر قليلاً، نهاد سيريس، وفيصل خرتش، وجمال باروت، وفؤاد محمد فؤاد، وبسام حسين، ولقمان ديركي، وأحمد عمر، وآخرون... وتطوّرت اللقاءات، وصرنا نتبادل الزيارات في بيوتنا، وكان أن زرنا خالد خليفة، في دار أهله، ورأيت أنّ بيئته ريفية (من قرية مريمين)، قريبة من بيئتي، وهو إنسان من النوع القريب من القلب، يفرض على مَن حوله مبدأ "رفع الكلفة"، ولم يكن في رصيده الأدبي، على ما أذكر، سوى بعض الأشعار، وربّما كان قد بدأ بكتابة رواية "حارس الخديعة"، وأنا مثله، كان في رصيدي قصتان قصيرتان، أو ثلاث، وبضع مقالات متفرقة نشرت في جريدة تشرين..
عالم التلفزيون ينشر الاسم كما النار في الهشيم، وهذا ما حصل مع خالد عندما أخرج له كبير المخرجين السوريين هيثم حقي مسلسل "سيرة آل الجلالي"
بعد ذلك، كما علمتُ، انتقل خالد إلى دمشق، وأقام فيها.
ومرّت أيام، وسنون، والتقيت بخالد في دمشق، وكان اسمه قد بدأ يكبر، وأصدر رواية "دفاتر القرباط".. ومما هو معلوم أنّ الإبداع الأدبي يجعل شهرة الكاتب تنمو ببطء، وضمن نطاق المثقفين فقط... بينما عالم التلفزيون ينشر الاسم كما النار في الهشيم، وهذا ما حصل مع خالد عندما أخرج له كبير المخرجين السوريين هيثم حقي مسلسل "سيرة آل الجلالي". ومن الأحاديث التي لا تغادر ذاكرتي، بخصوص الشهرة التلفزيونية، ما رواه المرحوم أسامة أنور عكاشة، في أحد حواراته، أنّه لم يُعرف من خلال عدّة مجموعات قصصية ورقية أصدرها في مطلع حياته، بقدر عشرة بالمائة مما حقّقه من شهرة بعد أوّل مسلسل كتبه.
توالت أعمال خالد خليفة التلفزيونية، بالتوازي مع أعماله الروائية، فأصدر "مديح الكراهية"، و"لم يصلِّ عليهم أحد"، و"الموت عمل شاق"، وترجمت بعض قصصه ولقاءاته إلى عدّة لغات أجنبية، وأصبحت أعماله التلفزيونية محبّبة لدى المخرجين، فكتب لهيثم حقي مسلسل "قوس قزح"، الذي يتألف من حلقات منفصلة ومتصلة، بمعنى أن تتضمن كلّ حلقة قصة جديدة، ولكن الشخصيات هي نفسها، وكان من بطولة سليم صبري وعبد الهادي صباغ وثناء دبسي وسلاف فواخرجي وهناء نصور وممثلين آخرين..
وكان خالد يحب أن يقوم بفعل الكتابة في المقهى، وهذا ييسّر له اللقاء بكثير من الناس الذين يبادلونه المحبة، وأنا كنت ألتقيه في زياراتي المتقطعة لدمشق، في نادي الصحافيين، وهو عبارة عن مطعم وكافتيريا، وكانت له طاولته الخاصة وكومبيوتره المحمول، وكنت، كلّما شاهدته، أفاجأ بأنه يشتغل بكتابة مسلسل، أو فيلم سينمائي، أو رواية، وكان يترك شغله، ويدعوني إلى فنجان قهوة، نتبادل أحاديث سريعة، ربع ساعة، ثم أتركه وأمضي إلى طاولتي، ولا أغادر المكان، في تلك المرّة، قبل أن أجالسه مرة أخرى، وعلى نحو قصير، حرصاً منّي على عمله.
توالت أعمال خالد خليفة التلفزيونية، بالتوازي مع أعماله الروائية، فأصدر "مديح الكراهية"، و"لم يصلِّ عليهم أحد"، و"الموت عمل شاق"، وترجمت بعض قصصه ولقاءاته إلى عدّة لغات أجنبية
وخالد من الكتاب الذين يحبّون السفر، وهو من محبّي دمشق، ولذلك كان، وعلى الرغم من معارضته الصريحة لنظام الأسد، يعود إلى دمشق بعد كلّ سفر، بمعنى أنّه كان في حالة تحدّ دائم مع النظام. وأذكر أنني التقيته في إسطنبول، سنة 2015، وسهرنا، ومرحنا، وسألته عن مسلسل "المفتاح" الذي أخرجه هشام شربتجي، وقلت له إنّ المسلسل أعجبني كثيراً، فهو ينتمي إلى الأعمال التي تعرّي الطبقة الطفيلية المرعبة التي تحيط بالنظام، والأشخاص الوصوليين الذين يبدأون حياتهم المهنية صغاراً، ثم يكبرون بخطى ثابتة، ويصبحون بين الكبار، ولكن بعد أن تداس كرامتهم وأخلاقهم تحت أقدام المتنفذين الكبار. ومن هذا الطراز كتب خالد الجزء الثاني من مسلسل "العراب" الذي أخرجه المخرج الراحل حاتم علي. وسألته عن عودته إلى دمشق، رغم معارضته النظام، فعرض عليّ فلسفته البسيطة، السهلة، الممتنعة، وقال:
- هذه بلدنا، أعود إليها عندما أريد، وإذا أرادوا أن يعتقلوني، فليفعلوا، مثل صرمايتي.
مناسبة هذا الحديث، رحيل خالد خليفة، صديقي العزيز، في سن مبكرة، فهو من مواليد 1964، وهو في أوج العطاء. وأما بقية الأصدقاء الذين عرفتهم في حلب، فكلّ واحد منهم، لي معه صداقة قوية، ومحبة متبادلة، وقد رحل بعضهم: فؤاد مرعي ووليد إخلاصي وعبد الفتاح قلعجي.. رحمهم الله جميعاً.