دكتور "حيوان" عنده مكتبة
أتيت، في حديث سابق، على ذكر ضباط الجيش والمخابرات في سورية، وقلت إنهم يكرهون المثقفين، ويحتقرونهم، ويخاطبون الواحد منهم، لأجل السخرية منه، بلقب "الأستاذ".
أثناء تواجدنا، نحن المثقفين (الأساتذة)، في الدورة العسكرية، كنا نجوع كثيراً بسبب التدريب الشاق طوال النهار، وفي الساعة السابعة مساء يأمروننا بالذهاب إلى المطعم.. وهناك، وعلى الرغم من رداءة الطعام، كنا نأكل بشهية، أو (نَحُشُّ حَشّ) على قولة أهل معرتمصرين.. ولكن المثل الشعبي يقول إن الخروج من الحَمَّام ليس كدخوله، فبعد العشاء كان طلاب الضباط المتطوعون يقومون بحفلة تعذيب وإذلال لـ (الأساتذة) لا مثيل لها، وفي ذلك التوقيت لا بد أن يسمع أي شخص مار بجوار الكلية أصوات الإيعازات:
- منبطحاً.
- جاثياً.
- التمرين التاسع خود وضع.
- مشية البطة خود وضع..
- أنت ولاك تلميذ رقيب، قدم اسمك وعملك..
- يا الله ولاك "أستاذ" الزفت. تمردغْ عَ الوحل.
المسخرة الحقيقية تبدأ عندما يريد طالب ضابط (خفيف الظل) أن يعرف نوع شهادة (الأستاذ) الذي وقع في براثنه. فإذا قال له إنه يحمل الليسانس في التاريخ، يضحك الطالب ويقول: دارس تاريخ يا أستاذ؟ من كل عقلك رحت ع الجامعة ودرست تاريخ؟ بحضي لو أنك تركت الجامعة كان أحسن لك. طيب احكي لي لأشوف، كيف الواحد بيدخل التاريخ وكيف بيطلع منه؟ ولما بيدخل أو بيطلع ما بينطرق رأسُه بالنَجَفة؟! كهي كهي كهي..
بينما يكون طالب آخر مسيطراً على خريج أدب عربي: الرفيق دارس أدب عربي؟ يا سلام. طيب إمشي لي لأشوف مشية الشعراء.
الطالبان طلبا مني أن أنتظرهما في الساحة بعد العشاء، ومن سوء حظي أن السماء كانت في تلك الأمسية تمطر
أو يقول له: هات اقرا لنا بيتين شعر من اللي بيحبهن قلبك. إنتوا الأساتذة بتحبوا شعر الغزل تبع النسوان. ما هَيْكي؟ سمعني لأشوف قصيدة غزل. وقلي مين هي المرأة اللي تغزلت فيها.
والويل كل الويل لمن يتردد في تنفيذ هذه الأوامر السخيفة.
ما حصل، بعد الأيام الأولى من الدورة العسكرية، أنني صرت أدخل إلى المطعم، وقت العشاء، وأنتظر حتى يوضع الطعام على الطاولات، وأسمع إيعاز البدء بالطعام، وأضع بعض الأطعمة الناشفة في جيوبي، وأخرج مسرعاً، هارباً إلى المهجع قبل أن تحتدم حفلة البياخة اليومية، فإذا احتدمت وأنا في المهجع، أخرج منه، وأقف في مكان مظلم، وأتفرج على زملائي وهم يتمرغون بالأرض والوحل، ينتابني شعور مختلط بين الفرح بالنجاة، والإشفاق على زملائي، والضحك من سخافة الطلاب. وفيما بعد اهتديت إلى شخص من مدينة إدلب يخدم عسكريته في نفس الكلية.. كان مسموحاً له أن يغادر الكلية بعد الظهر، ويعود في اليوم التالي، صرت أعطيه نقوداً وأوصيه أن يُحضر لي من حمص بعض الأطعمة الناشفة (خبز ومربى وجبنة وزيتون)، أخبئها في حقيبة ثيابي في المهجع، وأتعشى وحدي بعد ذهاب الزملاء إلى المطعم، فأتجنب، بذلك، المرور في الساحة بعد العشاء، وأنجو من الإهانات.
استمتعتُ بنجاتي من حفلة "بعد العشاء" خمسة أو ستة أيام.. وبعد ذلك وقعت الحادثة التالية: دخل علينا ضابط ومعه مرافقون، وطلبوا من كل واحد أن يقف بجوار سريره، وبدأوا التفتيش، وعندما وصلوا إلى حقيبتي الصغيرة، فتحوها، ووجدوا فيها الخبز والجبن والمربى.. وعينك لا ترى إلا النور، فقد أعطى الضابط اسمي لاثنين من طلاب الضباط المتقدمين، وقال لهما: الأستاذ بأمانتكن!
الطالبان طلبا مني أن أنتظرهما في الساحة بعد العشاء، ومن سوء حظي أن السماء كانت في تلك الأمسية تمطر، وتتشكل على الأرض تجمعات للمياه، وكان طلاب الضباط يحبون هذه التجمعات المائية، وعندما يقع في يدهم (أستاذ أو أكثر) يطلبون منه أن ينشف الأرض. ويكون ذلك بأن يستلقي على الأرض، ويتدحرج حتى تنتقل المياه إلى ثيابه وتصبح الأرض، بعد تدحرجه ناشفة.
(استمرت حفلة عقوبتي نصف ساعة، أو ربما أكثر قليلاً، وعندما عدت إلى المهجع كاد زملائي ألا يتعرفوا علي).
ومما يروى عن كراهية العسكر للمثقفين، أن متطوعاً برتبة رقيب في الأمن الجوي، ترأس مجموعة من العناصر أرسلهم أحد الضباط في مهمة مداهمة لمنزل دكتور جامعي يدرس في قسم اللغة العربية بجامعة حلب، بعد انطلاق ثورة 2011، فقد جاء إلى الضابط تقرير يقول إن مجموعة من الطلاب انطلقوا يهتفون، في أحد الأيام، للحرية، وتطاول بعضهم وهتفوا: يا الله إرحل يا بشار. سورية لنا ما هي لبيت الأسد..
وجاء في التقرير، أيضاً، أن الدكتور (سين سين) رأى الطلاب وهم يهتفون، ولم يتدخل لأجل منعهم من متابعة هتافاتهم، بل ارتسمت على وجهه علامات الرضا، وعندما تدخل رفاقنا في اتحاد الطلبة، وحملوا أحزمة البنطلونات وراحوا يضربون بها زملاءهم المتظاهرين، صرخ الدكتور سين سين بالجميع طالباً منهم أن يهدأوا، ويذهب كل منهم إلى قاعة دروسه.
على أثر التقرير وُضع سين سين تحت المراقبة، ولوحظ أن بعض الطلاب الذين اشتركوا في المظاهرة كانوا يزورونه في مكتبه. وأخيراً قرر الضابط تفتيش منزله، فأرسل الرقيب الذي يكره الأساتذة والدكاترة ويحتقرهم للقيام بهذه المهمة. وأثناء التفتيش كان الرقيب على اتصال مباشر برئيسه عبر الموبايل، يعلمه بما يرى في المنزل.. ومن أطرف العبارات التي قالها أثناء ذلك: يا سيدي هادا الحيوان لقينا عنده مكتبة!