ديمقراطية البعثيين مع الدكتور فاخر العاقل
أساطير بعثية (1)
كان أبو سعيد قد اطلع على بعض قصص كتابي "أساطير بعثية"، التي نشرتها على فيسبوك. لذلك، حينما اتصل بي بالأمس، قال:
- لماذا لا نحكي، هنا، بعض القصص والحكايات والطرائف التي تتعلق بالبعثيين؟
- والله، يا أبو سعيد، فكرتك ممتازة، فهذا موضوع يتميز بالغنى، والطرافة. ولكن، أحب أن أوضح لك، وللإخوة القراء، بدايةً، أنني لست ضد الأشخاص المنتسبين لحزب البعث عموماً، لأن القسم الأكبر منهم (بعثيون بالاسم)، ومعظمهم يخجلون من هذه الصفة، فإذا سئل أحدهم، على حين غرة: أنت بعثي؟ تراه يضطرب، ويغمغم، ويقول:
- لا والله، ولكن أذكر أنهم، ذات مرة، طلبوا مني طلب انتساب، وقدمت، ثم لا أدري ماذا حصل، الأرجح أنني لست بعثياً!
هذا الكلام الملتبس يدل على أن معظم البعثيين لم يدخلوا الحزب نتيجة محبة، أو قناعة، أو رغبة، وإنما من قبيل (كسر الفتنة)، فالأمر المتعارف عليه أن يدخل "الموجه" إلى الصف الأول الإعدادي، في بداية السنة الدراسية، ويعد الطلاب الموجودين فيه، ثم يوزع عليهم عدداً من استمارات الانتساب لحزب البعث يساوي عددهم، ويقول لهم:
- املأوها، ووقعوا عليها.
كان يكتب تقارير كيدية بمعلمي المدرسة غير الملتزمين بالحزب، ويسلمها لفرع المخابرات العسكرية في إدلب، ويسبب لهم استدعاءات وإهانات، وبعضهم كان يعتقل ويختفي أثره
وفي الدرس التالي، يعود لزيارة الصف، ويجمع الاستمارات، ليصبح هؤلاء الطلاب الصغار الذين لا يفهمون شيئاً في السياسة، ولا في الأحزاب، ابتداء من اليوم التالي، بعثيين.
ضحك أبو سعيد، وقال:
- والله يا أبو مرداس أنا انتسبت للحزب بنفس الطريقة، ولكن صارت معنا، بوقتها، طرفة جميلة. هل تعرف الموجه، الرفيق "رستم الطَنْك"؟
- طبعاً، ولو، مَن لا يعرف رستم الطَنْك؟ إنه أوسخ موجه مر على مدرستنا منذ تأسيسها، وحتى ساعة هذا الاتصال.
- نعم. بالفعل. ويقال إنه كان يكتب تقارير كيدية بمعلمي المدرسة غير الملتزمين بالحزب، ويسلمها لفرع المخابرات العسكرية في إدلب، ويسبب لهم استدعاءات وإهانات، وبعضهم كان يعتقل ويختفي أثره. المهم؛ بعدما وزع علينا رستم الطنك الاستمارات، تحدث ببضع جمل، تضمنت كلمة "ديمقراطية"، التي سمعنا بها، يومئذ، للمرة الأولى، ووقتها قام زميلنا محمد، القادم من قرية زَرْدَنَا، وقال له: أستاذ، أشو يعني ديمئراطية؟
فغضب رستم وقال: ديمقراطية بـ القاف، يا غبي، مو بالـ آف. الديمقراطية هي حكم الشعب نفسه بنفسه.
ولكن زميلنا محمد الزردناوي كان من النوع الملحاح، فقال: طيب أشو علاقة هذه الكلمة، التي تكتب بالقاف، باستمارات الانتساب للحزب؟
ههنا انفرجت أسارير الرفيق رستم الطَنْك، لأنه سئل عن أمر يعرفه جيداً، وقال مخاطباً إيانا: سؤال رفيقكم محمد ممتاز، وأنا الآن سأوضح لكم العلاقة بين الأمرين. الموضوع، يا رفاق، أن الانتساب لحزبنا العظيم اختياري، وهذا لب الديمقراطية، لو كان الانتساب إجبارياً لسَمَّيْنَا هذا التصرف ديكتاتورية. فهمتم؟ المهم، يا أبو مرداس، جاء رستم الطنك في الحصة التالية، واستلم الاستمارات، وتأكد من عددها، وقال لنا: مبروك. تشرفتم الآن بالانتساب لحزبنا العظيم.
- طيب يا أبو سعيد، أريد أن أسألك سؤالاً: هل رفض أحد من الطلاب الانتساب للحزب؟
- لا.
قلت مخاتلاً: هذا يعني أنكم انتسبتم للحزب عن قناعة. صح؟
- قناعة أيش أبو مرداس؟ قلت لك نحن طلاب صف سابع، أعمارنا بين 13 و14 سنة، ولا نفهم شيئاً من السياسة. ولكن مَن كان يجرؤ على رفض الانتساب؟
- نعم. صحيح. لا تجرؤون. وهذا يعني أن الانتساب كان إجبارياً، وكلام رستم الطنك عن الديمقراطية ليس أكثر من فذلكة و(طق حنك). وأنا أعتقد أن كل واحد منكم، على الرغم من صغر سنه، كان قد سمع من أبيه، أو أخيه، أو أحد أقاربه، شيئاً عن البطش الذي تمارسه السلطات على الشعب، وقد يكون أهلكم قد أوصوكم بأن تنفذوا أية أوامر تأتيكم من إدارة المدرسة، دون مناقشة، لكيلا تسببوا لهم مشاكل مع السلطة. وأنا هنا سأستغل الفرصة وأحكي لك بعض الحكايات التي سبق لي أن ضمنتُها كتابي "حكايات سورية لها علاقة بالاستبداد"، أو كتابي الآخر "كوميديا الاستبداد"، وأخرى أعرفها وأحفظها وفاتني ذكرها في الكتابين. هل تعرف الدكتور فاخر العاقل؟
- لا أعرفه شخصياً، ولكنني سمعت به. أظن أن بيت العاقل من بلدة كفرتخاريم التابعة لمحافظة إدلب.
- عليك نور يا أبو سعيد. فاخر العاقل من بلدة كفرتخاريم، وهو دكتور في "التربية وعلم النفس"، كان يدرس في جامعة دمشق، وله عشرون كتاباً مهماً في هذا الاختصاص، وقد حدثني أحد الأصدقاء أنه زاره في دار السعادة للمسنين بحلب، قبيل وفاته في سنة 2010، وأنه سُر بزيارة صديقي، فهو يعرف والده معرفة شخصية، لذلك اطمأن له، وراح يحكي أمامه بعض الذكريات، وأهمها اثنتان لهما علاقة بحزب البعث.
- رائع. ولكن قل لي، هل نبيه العاقل قريب لفاخر العاقل؟
- نعم، شقيقه، وهو كاتب في العلوم السياسية، له عشرة كتب، وكذلك محمد عادل العاقل، المتخرج من أميركا سنة 1956، الذي أسس، في سنة 1971، كليةَ العلوم الاقتصادية في جامعة حلب، التي تخرجتُ فيها أنا سنة 1976. المهم، قال فاخر العاقل لصديقي إنه، أثناء عمله في كلية التربية، اضطر لزيارة مسؤول بعثي من مرتبة القيادات، وأثناء الزيارة، دخل الآذن (الفراش)، وقدم لهما الشاي، وبعد خروجه، علق المسؤول قائلاً: أنا أفضّل هذا الآذن، الملتزم حزبياً، على حملة الشهادات العليا من أمثالك، الذين يتعالون على الحزب، ولا يسعون للانتساب إليه!
وأما الحكاية الثانية، فكانت مع مسؤول آخر، طلب من الدكتور فاخر أن ينتسب للحزب، فشرع الدكتور فاخر يختلق الحجج والأعذار، بأن وقته لا يكفيه في تأليف الكتب والمراجع، وتدريس الطلبة، ولا بد أن الانتساب للحزب يرتب على المرء أعباء إضافية، تحتاج لوقت، و...
وقبل أن يكمل عرض مسوغاته قال له المسؤول:
- يعني ما بدك تنتسب للحزب. بالناقص منك!