رأس الأفعى
هي الأفعى ذاتها، برأسها، وحتى ذنَبِها.
ونسأل هنا: هل بقي في ذهن عاقلٍ بقية من شكّ بأنّ عدوّنا الرئيس والمباشر هو الولايات المتحدة الأميركية؟ إن كان هناك متشكّك، فليتفحص دماغه.
المسألة ليست أنّ الولايات المتحدة تدعم الكيان الصهيوني وتؤيده، وإنّما هي تجاوزت ذلك إلى أبعد بكثير، فهي، وهي تتزعم الغرب الاستعماري وتقوده، أسّست قاعدة متقدّمة لها في منطقتنا العربية (ولا أقول الشرق الأوسط الذي هو مصطلح استعماري غربي صرف). وهدف هذه القاعدة الاستعمارية الاستيطانية، إضافة إلى التخلّص من وجود اليهود في الغرب، مراقبة ومنع أيّة خطوات لتحقيق الاستقلال أو الانعتاق عن الاستعمار الغربي.
وإذا كان هناك من يعتقد أنّ الكيانات القطرية العربية نالت استقلالها أو أنّها مستقلة؛ فليراجع إمّا التاريخ أو طبيبًا نفسيًا. إذ إنّ أولى خطوات منع استقلال العالم العربي كانت تمزيقه، وتقطيع أوصاله إلى كيانات (وفي بعض الأحيان حواكير) من خلال إيكال مهمة ادّعاء ما يسمّى استقلالأً إلى أشخاص وجهات هي، إمّا متعاونة مع المستعمر، أو تابعة له، أو تسعى لنيل رضاه أو تهادنه خوفاً.
وإذا ما ظهرت جهة، أيّاً كانت، تسعى لتحقيق الاستقلال الناجز والحقيقي، فوكلاء الاستعمار وأدواته موجودة لإجهاض هذا المسعى (مصر مرسي نموذجا).
إذا كان هناك من يعتقد أنّ الكيانات القطرية العربية نالت استقلالها أو أنّها مستقلة؛ فليراجع إمّا التاريخ أو طبيبًا نفسيًا
وهناك أيضاً الكيان الصهيوني المزرع في قلب العالم العربي ليكون قاعدة متقدّمة أو "حاملة طائرات" للقضاء على من لم تستطع هذه الأدوات إجهاض محاولته للاستقلال. فإن لم تستطع ستأتي أميركا، وخلفها دول الغرب الاستعماري، للقضاء عليها (العراق نموذجًا).
لن أُغرق في تفاصيل مسألة ما يسمّى "الاستقلال المزعوم" للكيانات العربية، فهذه مسألة تحتاج الكثير من الشرح. لكنّ ما يعنينا هنا تأكيد المؤكد؛ وهو أنّ أميركا، زعيمة الغرب الاستعماري، هي عدوّة الشعب العربي وسائر شعوب العالم، أيّا كان نمط الاستعمار الذي تمارسه وشكله وأقنعته، اقتصاديًا أم ثقافيًا أم سياسيًا أم عسكريًا.
ولا يعنيني هنا آراء الأنظمة العربية كافة، ولا مواقفها التي ترى في واشنطن حليفة (استراتيجية في بعض الأحيان) وصديقة لها. إذ لا يجب أن تأخذ بالاعتبار رأي تابع أو تقيم له وزناً، وهو يلهث وراء كسب رضى السيد الأميركي، معتقدًا أنّ بيده تثبيته وإبقاءه في سدّة الحكم.
ولا تعنينا آراء "أشباه" المثقفين العرب المتخاذلين الذين ينظرون إلى الغرب نظرة إكبار وهيبة، وأقصى أمانيهم أن يتهافتوا على موائد سفراء دوله، أو أن تستضيفهم وتقدّم لهم الهبات والعطايا ليؤدوا ما يُملى عليهم من أدوار وواجبات لتفتيت المجتمع العربي وتمزيقه وهدم معنوياته وقتل طموحاته وأمنياته وأحلامه بالتحرّر والانعتاق والرفعة.
ما يعنيني هنا هو الناس، الناس الذين غُلِبوا على أمرهم عبر عقودٍ من الزمن المظلم وهم يرزحون تحت حكم أنظمةٍ استبدادية إقصائية لا تمتلك أيّة شرعية، سياسية كانت أم دينية أم نضالية، إلا إذا كانت "هزليات الانتخابات"، المصمَّمة مسبقا، والمعروفة نتائجها مسبقاً، تمنح هذه الأنظمة الكرتونية أيّ حظ من الشرعية.
لا يرتبط الأمر برئيس أميركي دون غيره، فجميعهم يتفقون على قضية واحدة؛ إبقاء الخنجر المزروع في خاصرة الوطن العربي لإدامة الهيمنة عليه والسيطرة على مصيره وموارده
ومن يظن أنّ الدعم الأميركي يعود إلى تأثير اللوبي الصهيوني في أميركا، فهو واهم؛ إذ إنّ حماية الكيان الصهيوني وإدامته هو استراتيجية أميركية، وغربية، محضة ودائمة، لا يختلف في ذلك الجمهوريون أو الديمقراطيون، حتى لو اصطف اللوبي الصهيوني ضد أحدهما في الانتخابات، ولا العمال أو المحافظون في بريطانيا، وهكذا.. كلّهم صهيونيون أو متصهينون، ومعهم بعض الأعراب.
لا أظن أنّ لنا حاجة لسوق آلاف الدلائل على أنّ ما نواجهه نحن العرب، وأهلنا في فلسطين، منذ عقود، هو هجمة استعمارية تقودها وتخطّط لها أميركا، منذ أن ورثت الإمبراطورية البريطانية المتهاوية عقب الحرب العالمية الثانية.
ولمّا رأت أنّ قاعدتها، أي الكيان الصهيوني، المتقدّمة (الواهية) في منطقتنا العربية، تتهاوى بسواعد بضع مئات من المجاهدين، جنّ جنونها، فبادرت هي، ومن خلفها دول الاستعمار الأوروبي، لتستلم زمام الأمور، بعد أن اكتشفت أنّ طفلها المدلّل ما هو إلا نمر من كرتون، وأنّه لا يقوى على التصدّي لهذه المقاومة التي فهمت واشنطن يقيناً أنّ عدم التصدّي لها واقتلاعها من جذورها سيطيح جميع مخططاتها التي اشتغلت عليها، وما تزال لإحكام سيطرتها على المنطقة العربية، وبالتالي على العالم.
عدوّنا الأول هو الاستعمار الأميركي، ومن خلفه الاستعمار الغربي، وما الكيان الصهيوني المصطنع إلا أداته المتقدمة في المنطقة
ولا يرتبط الأمر برئيس أميركي دون غيره، فجميعهم يتفقون على قضية واحدة؛ إبقاء الخنجر المزروع في خاصرة الوطن العربي لإدامة الهيمنة عليه والسيطرة على مصيره وموارده. فأميركا تعفي الأموال المتبرّع بها للكيان من الضرائب، ومعها أيضًا بريطانيا وأستراليا وألمانيا وسويسرا. وما وصف الرئيس الأميركي بايدن للمليارات العشرة التي قُدّمت على عجَلٍ دعمًا للكيان بأنه "استثمار ذكي" إلا تفسير واضح بأنّ الحرب ليست بين الكيان المصطنع والمقاومة الفلسطينية، وإنّما حرب استعمارية غربية ضد العرب أجمعين.
لذلك، لا يجب علينا أن نربط العدوان الهمجي الصهيوني الحالي على غزّة وسائر فلسطين بوجود حكومة يمينية متطرفة أو رئيس حكومة مختلٍّ ومهووس، فهم جميعاً متطرفون ولا حمائم لديهم، وهم جميعاً يأتمرون بأوامر واشنطن وينفذون أجنداتها ويحمون مصالحها، إضافة إلى أحلامهم المريضة بإسرائيل الكبرى لتكون قاعدة أكبر للاستعمار الغربي.
وبهذا، علينا أن نرفض التسمية الإعلامية الغربية "حرب إسرائيل ضد حماس"، وأن نسمّي الأمور بمسمياتها؛ لأنّ التسمية الحقيقية هي الحرب "الصهيو- أميركية" ضد كلّ ما هو عربي، وضد أيّ مقاومة عربية للمشروع الاستعماري الممتد ضد أمتنا، التي تحارب المقاومة الفلسطينية في غزّة وفلسطين المحتلة، نيابة عنها.
عدوّنا الأول هو الاستعمار الأميركي، ومن خلفه الاستعمار الغربي، وما الكيان المصطنع إلا أداته المتقدمة في المنطقة. وعلى هذا الفهم والتصوّر يجب أن تكون نظرتنا وعلاقتنا مع هذا الاستعمار وأدواته في منطقتنا وفي كلّ مكان، نحن وسائر الأحرار في العالم.
"أميركا هِيِّه هِيِّه.. أميركا راس الحية".