زفاف في غياب العريس
صورة بألف وجع، لا بل بعدد لا متناهٍ من الأوجاع، فحتى الصورة نفسها تئنُّ من الآلام، وتوّدُّ لو أنّ لها ذراعين لتُمسك بذلك السلاح الذي تحمله في ثناياها؛ وتمضي لتُفرغ الذخيرة من الطلقات ثم تعود أدراجها بسلام، لتُقبّل جبين الشهيد، فاروق سلامة الطاهر، وهي تقول: "انتزعت ثأرك.. الآن سيحق لي أن أحملك في طياتي".
وعلى بعد أمتار، كانت الاحتفالات تُقام في جنين، والولائم تمتدّ في عش الدبابير، والذبائح تتوزع هنا وهناك، فالتاريخ 5 نوفمبر/ تشرين الثاني، والاحتفال فيه يُدشن لأجل عرس فاروق، التجهيزات على ما يُرام، وأهالي المدينة يترجلون إلى صالة وصل امتدادها إلى الشمس حتى بدأت بالكسوف، فالأرض والقمر والشمس والمقاومة على استقامة حزن وثأر واحد في مدينة الأبطال، حيث الرجال وسلاحهم، والنساء والأطفال جميعهم شرعوا بحضور الزفاف؛ منذ أن بدأته الدماء قبل يومين من تاريخه في نقل فاروق جريحاً وتشييعه شهيداً، والأم أذعنت بنبأ اقترابه بين أزقة المستشفى وهي تُطلق الزغاريد وتذعر المحتل، وتتغزلُ بسُمرة ابنها، تقول: "إلى الحور العين يا حبيبي زفيتك ما تطولش"، في وقت كانت تحبس دموعها فيه، وتُحرّم البكاء على الجموع، فإن أبصرت أحدهم يذرف الدموع، صرخت: "ما تعيطش ابني عريس بزفه للجنة".
في أعقاب ذلك، كانت بدلة العرس تتزيّن بالدماء لتمنحها طهارة تُمطرها السماء، وهي معلقة على حبال الصورة ذاتها (التي ذكرناها في مطلع الحديث)، وبجانبها عتاد لبطل جنين وقائد كتيبتها، وبارودته، وبدلته العسكرية، ورسمة أبدع من خطها في تشكيل تقاسيم وجهه، في وقت كانت "نغم" تُخرج فيه قلادة عُلق بها اسمها، واسم فاروقها الذي لطالما عشقته، وتُقسم بأن تُحنطّ ثوب الزفاف، وهي ترفعه في العلالي، حيث تصاعدت الزغاريد لتصل إلى عريسها وهو يطاول السماء، وهي تودّع حبها الغائب جسداً والحاضر روحاً، وقلبها يشتعل ناراً وفرحاً؛ فتصرخ، ثم تسقطُ أرضاً، ثم تقف تستذكر المكالمة الأخيرة السريعة، أو التي ربما كانت كذلك؛ فتبتسم...
كانت الأم، إن أبصرت أحدهم يذرف الدموع؛ صرخت "ما تعيطش ابني عريس بزفه للجنة"
فاروق: لقد انتهيت من توزيع بطاقات الفرح، وأشرفت على الانتهاء من ذبح الذبائح.
نغم: وأنا أتممتُ تجهيزات الحفل، الفستان معلّق في صدر غرفتي بجانب صورتك وموعدي بصالون التجميل حُجز، وأنا مشتاقة لك وأودّ رؤيتك.
فاروق: وأنا أكثر يا جميلتي لم يعُد أمامنا سوى ساعات لنكون سوياً، وننجب أبناء نحرّرُ بهم فلسطين، والبكرُ كما اتفقنا سيكون داوود تيمناً بالزبيدي الذي سبقنا للخلود.
نغم: في صوتك شجن، ما الأمر!
فاروق: لا أقوى على ما يسمونه فرحاً! في حضرة الاشتياق لرفاق مضوا، وأسود يحلقون فوق العرين، فطيفهم يزورني كلّ وهلة حاملاً بشائر نصر، وذكرياتهم أمان قلبي، فهنا على بعد مسافات، أستذكر يوم كان داوود يستقل مركبته، وسلاحه بجانبه شارةً للحرية، وأخذ أحدهم يسأله: ما حلمك؟. ليجيب: شهيد، وقد نالها داوود كحال أبطال عش الدبابير الذين ارتقوا "طلبوها ونالوها".
صمت فاروق لبضع لحظات والألم يعتصره، ثم أكمل: وعلى بعد كيلومترات من هنا سيأخذكِ الطريق إلى جبال النار حيث عرين الأسود وذكرى أشقاء الروح، محمد العزيزي، وعبود صبح، ووديع الحوح؛ الذين امتدت دماؤهم من نابلس إلى جنين حتى وصلت جدران منزلي وهي تخطّ فوق صوري بمعيتهم جملة واحدة "انتزع الثأر، وارتقِ، دعك من صور الأرض الآن سنلتقط كثيراً منها في السماء".
نغم: بربي أفاخر بك الدنيا يا فاروق، لكن أخشى عليك من درب الحق الذي تسلكه، وأشعر أنك تجري إلى الشهادة، وهذا ما يأسرني وينذرني بفراق محتوم.
فاروق: لقد تحدثنا سابقاً بهذا الشأن، وأخبرتك بأن مهما بلغ حبكِ في قلبي لن يثنيني عن طريق النضال سأبقى على عهد الأبطال، وأنتِ تعلمين أنك غاليتي، لكن فلسطين بمثابة الكون لديّ، ولن أخون حبي لها يوماً.
نغم: أعذرني لكن حبّك يطغى في قلبي، أعدك سأمضي معك كما تشاء، أين ذهبت؟ هل تسمعني؟
أبصرت نغم الدم يسيلُ وجموع تتبعه لتلحق به وتمضي، لتدرك حينها أن فاروق ارتقى وقلبها كذلك
انقطع الاتصال، وتقطّع القلب، والوصل لم ينقطع، ومكثت نغم تنادي على فاروق، وتحلم بلقاء انتظرته عمراً، تفصلها لتحقيقه ساعات حتى أيقظوها على كابوس الوداع. في بادئ الأمر، حاولوا تخفيف وطأة الفاجعة عليها، فقالوا لها إنّ رصاصات الغدر أصابت الفاروق في محاولة اغتيال خسيسة من بني صهيون؛ لتهرول نحو المستشفى، وفي طريقها كانت تُحاصرها رائحة مسك تفوح وتفوح، ودقات قلبها تتسارع بذات السرعة التي تتطاير بها الرائحة، وتحاول نزع قلبها كي تتحرّر من إحساسه الذي كان يناديها، وبتريث يقول لها: إن فاروق استشهد، اصبُرِي يا نغم، كوني أنت نغم لتراتيل تشييعه... حتى أبصرت نغم الدم يسيلُ وجموع تتبعه لتلحق به وتمضي، لتدرك حينها أن فاروق ارتقى وقلبها كذلك.
القصة لم تنتهِ بعد، ككل قصص الشهداء، وبشكل أدق، قلمي أضعف من كتابة نهاية لا يحق له حتى تخيّلها لمن هم أحياء في ضلوع الأرض، فالأبطال هنا من رحم الوطن وجرحه النازف منذ أكثر من سبعة عقود، وهم الذين يضعون القواعد ويقلبونها حين يريدون في الميدان، يقلبونها بوجه الكيان الغاصب، فما بالكم إن كانت في مقال أو قصة، فهم الذين يحوّلون الكاتب إلى شخصية من وحيهم يحدّدون معالمها ويقررون فرحها وحزنها، والحبكة في يدهم كما السرد والجذب، والقصة بلا هيكل أيضاً، فهؤلاء أسقطوا كلّ الهياكل ووهمها، بما فيها ذلك الذي يزعم العدو الصهيوني وجوده في أرضنا، فما ظنّكم بهيكل لقصص لا تُكتب إلّا بأمرِ من دمائهم!