سباق الأمهات في مضمار الـ"سوبر ماما"
بينما أستمتع بحركات طفلتي الصغيرة داخلي، وزيادة وزنها ووزني بشكلٍ طرديٍّ، وأتحضّر لأصبح أمًّا للمرة الأولى، ينتابني القلق من سباق الأمومة الذي أحاول الاستمرار بدوري كمشاهدة له عن بعد، رغم إغراقي بالكثير من النصائح التي تهلّ عليّ بشأن كيفية أن أكون "أمّا مثالية". فما الذي يُحدّد أن أتّسم بهذا المصطلح الفضفاض كأم مثالية، أو مهملة، أو حتى أمّ عادية؟ ولماذا عليّ أن أسعى جاهدة لأن أصبح "سوبر ماما" بناءً على مقاييس الألفية الجديدة؟ أقول هذا رغم اعتقادي بأنّ الأم بطبيعتها، غالباً ما تحاول جاهدة لأن تؤدي دورها تجاه أبنائها بشكل مثالي لا تشوبه شائبة، للحصول على نتائج ليست بالضرورة أن تكون متماثلة!
وهنا وفق قوانين "الأم المثالية" ستصنّفين ضمن مجموعة "الأمهات" أو "الماميز" اللواتي يتنافسن على مسلّمات مربوطة بتساؤلات ستغرقين بها، حول متى سيتحدّث طفلك، متى سيخطو أولى خطواته، ما هي أوّل كلماته، متى سيتمكن من استخدام دورة المياه، ومتى ستتمكنين أخيرًا من فطامه عن الرضاعة، ثم متى سيتعلّم الإمساك بالقلم، واللغة التي سيكتسبها، ومدّة حفظه للنصوص التي تعلمينها له، وصولاً إلى معدّله المدرسي والجامعي، وماذا سيصبح عندما يكبر، لأنّ "الأم المثالية تربّي طفلًا مثاليًّا بطبيعة الحال".
والأمر تخطّى هذه التساؤلات، وانتقلنا إلى حقبة زمنية جديدة في حياة الأم المثالية، التي عليها أن تعدّ علبة غداء متكاملة ومميّزة لأطفالها، ضمن صيحة "اللانش بوكس"، فترى الأمهات يتنافسن على ترتيبه وتنسيقه كلّ صباح، وشراء قوالب خاصة لقصّ الخبز بأشكال جميلة من النجوم والورود، وهو أمر مُحبّب إن كان يشجّع الطفل على تناول فطوره خلال الاستراحة، خصوصاً إن كانت الأم تعبّر من خلال هذا التنسيق عن حبّها لطفلها بطريقتها الخاصة، لكن التنافسية المُكلفة للأهل باتت عبئاً ثقيلًا على الكثير منهنّ، إذ سيجلس الطفل مع زميله ليقارن بغريزته الطفولية ما لديه بما لدى الآخر! وأحيانًا، حتى لو اهتمت الأم بصندوق غداء طفلها ونوّعت له بالأصناف، فليس بالضرورة، بحسب المعايير الدارجة، أن تكون "مثالية"، لأنّ عليها أن تهتم بتنسيقه، أو ابتكار أصناف جديدة بشكل يومي، وهي التي كانت تحمل "عصرونتها" من سندويشة الزعتر أو الجبنة وعلبة العصير، ويُطلب منها (رغم ذلك) أن تكون الأولى على الصف.
التنافسية المُكلفة للأهل باتت عبئاً ثقيلًا على الكثير من الأمهات، إذ سيجلس الطفل مع زميله ليقارن بغريزته الطفولية ما لديه بما لدى الآخر!
وكأنّ الصورة الجميلة للأمومة بدأت تهتز، حتى بالنسبة إلى من لم يعترفن بأنّهن فعلن ذلك، إذ إنّ الكثير من الأمهات قمن في مرحلة ما بالبحث عبر محرّك البحث عن "كيف أكون أمًّا مثالية؟"، أو ما هي مواصفات الأم المثالية، وإن فعلتِ ذلك ستجدين الكثير من النتائج لمقالات مكرّرة ومقاطع مصوّرة يسرد فيها غالباً أحد الرجال المشهورين على مواقع التواصل الاجتماعي، نصائحه بكيفية أن تكوني كذلك، مستندًا إلى "تحليلات نفسية" وتجارب اجتماعية!
أما مفهوم النجاح والإنجاز الذي تحققه الأم لتكون مثالية، فقد تغيّر بشكل طرديٍّ، إذ بتنا نرى الأم وهي تقدّم إنجازات تأخذ منها وقتًا وجهدًا كبيرًا. لكن، بحكم هذا المفهوم الجديد لا يكون ذلك كافيًا، فتذهب جهودها سدى في جعبة المثالية الفضفاضة، وهنا تبدأ المقارنات التي حوّلت جلسات الصديقات إلى منصّات للتفاخر بما أنجزه أطفالهن وما حققنه معهم، وأسلوبهن الحواري الجديد ضمن "التربية الحديثة"، مع سيل من النصائح والمقترحات المقدّمة لواحدة من صديقاتهن التي يرين أنها فشلت مع طفلها بنقطة معينة، أو التي استطعن الانقضاض عليها حين وجدن ثغرة لديها في أسلوبها التربوي لطفلها، فكشّرن عن أنيابهنّ وأجلسنها على كرسي الاعتراف، للتحقيق معها واستخلاص العبر والدروس وتلقينها أساليب التربية الحديثة.
كما أنّ من حق الأم العمل إن كان ذلك من طموحاتها وسبل تحقيقها لذاتها، فإن منّ حقها أيضًا اتخاذ قرار الامتناع عن العمل والجلوس في المنزل واتخاذ الأمومة وظيفتها الأكثر قداسة
وللأم المثالية مدرستان يدافعُ أفرادها عنها، فالقسم الأول حول "الموديرن ماما" التي عليها تحقيق النجاحات على صعيدها الشخصي والعملي، بامتلاك وظيفة تضعها بمكانة مرموقة، ليقول الطفل لأصدقائه وأمهاتهم: "تعمل ماما كذا"، وتحافظ على شكلها الجميل، وملابسها المتألقة، وتمتلك علاقات اجتماعية، وتضع مجهودًا مضاعفًا في المنزل لتطهو أشهى الأطباق دون أن تشوبها شائبة، وتفرّغ وقتًا للخروج في رحلة عائلية بشكل أسبوعي، ومراجعة دروس أبنائها والتنسيق لأنشطة لامنهجية، هذا بجانب دورها كزوجة لوالدهم. فيما يرى القسم الثاني أنّ الأم المثالية عليها أن تتفرّغ لتربية أطفالها بشكل كامل، مع أنهم يستهجنون فكرة أن تكون أمًّا غير حاصلة على شهادة جامعية، لكنهم يريدونها أن تحصل عليها من باب التفاخر العلمي والثقافة! أن تكون جاهزة لحلّ الأزمات وسماع الشكاوي وترتيب المنزل وطهو الأطباق الصعبة التي تأخذ مجهودًا إضافيًا خلال أيام الأسبوع، فتضع الطعام على طاولة السفرة وتطلب من أطفالها غسل أيديهم فور عودتهم من المدرسة، وبهذا يمكنهم تناول الغداء باكرًا عكس أطفال الأم العاملة. لكن التساؤل حول المدرستين، من له الحق في اتهام الأم بالنقص إن اختارت إحدى المدرستين؟ فكما أنّ من حقها العمل إن كان ذلك من طموحاتها وسبل تحقيقها لذاتها، فإن منّ حقها أيضًا اتخاذ قرار الامتناع عن العمل والجلوس في المنزل واتخاذ الأمومة وظيفتها الأكثر قداسة، ولا يحق لأيّ من روّاد المدرستين الانتقاص من أمومة أيّ منهن بناءً على مفاهيمهم الخاصة.
الأمومة هي الذكريات الجميلة التي تصنع طفلك، هي اللمسة التي تُربِّت كتفه فتنفض عنه الأحزان، ومهما اختلفت مقاييسها تظلّ تمتلك سحرًا خاصًّا، يجعل من الأم مثالية في عين أبنائها، وهذا هو الميزان الوحيد الذي يستحق أن نقيس به أمومتنا.