سمير بيك من العدلية
اتصل بي صديقي أبو سعيد، من إدلب، وقال:
- فكرةُ أبو جويّد، التي تتلخص في تسمية الدائنين (كَبَّاسين) لا تغادر مخيلتي.. ولكنني أرى في هذه القضية نقطة غائبة، وهي أننا لا نعرف شيئاً عن الدائنين (الكباسين)، ولم نسمع وجهة نظرهم، يعني: أليسوا على حق في مطالبتهم إياه بأموالهم؟ إننا نتعاطف مع أبو جويد، بسبب فقره، ونحسه، وخفة دمه، ولكن، هل من العدل أن يأكل على الناس حقوقهم؟
- كلامك صحيح، منطقياً، أخي أبو سعيد، ولكنك، الآن، تُخَرِّب الجانب الكوميدي من المسألة، فلو كان أبو الجود يدفع للدائنين (الكَبَّاسين) مستحقاتهم في حينها، لما كانت لدينا قصة، سواء تراجيدية أو كوميدية.. على كل حال؛ هذه الفكرة استدعت إلى ذاكرتي حكاية أبو جويد مع الأستاذ (سمير بيك من العدلية). هل تعرفها؟
- لا والله.
- في يوم من الأيام، كان أبو جويد (مُوَكِّراً)، مختبئاً بسبب تكاثر الدائنين (الكباسين)، وجاء لزيارته أبو فوزي، وهو الوحيد في مدينة إدلب الذي يعرف كيف يُخرجه من داره (وكره). بعد سلسلة الإجراءات المُطَمْئِنة التي اتبعها أبو فوزي، فتح له أبو جويد الباب، وإذا بصحبته رجل مهيوب، أنيق، يرتدي طقماً أسودَ، وربطةَ عنق زرقاء غامقة، وسارع إلى تعريفه به قائلاً:
- أعرّفك على صديقي، سمير بيك من العدلية!
صياغة التعريف أكدت لأبو جويد، بما لا يدع مجالاً للشك، أن هذا الرجل شخصية كبيرة في القصر العدلي، قد يكون قاضياً أو مستشاراً، يرأس إحدى المحاكم في عدلية إدلب. وقد أشعره هذا الأمر بالفرح لأنه بأمس الحاجة لأحد ما، في القصر العدلي، يساعده للخروج من محنته.
- محنة؟ هل كان أبو جويد في ذلك الوقت يتعرض لمحنة؟
- نعم. فقد رفعت عليه إحدى السيدات دعوى قضائية، وطلبت من المحكمة أن تودعه السجن.
- هذه القصة جديدة علي. مَن هي هذه السيدة؟ وما قصة الدعوى؟
- إنها أرملة تدعى أم كسار، ورثت من زوجها المرحوم أبو كسار مجموعة من الدكاكين في ساحة الخضار، ثمنها يقدر بملايين الليرات، جاءت إلى أبو جويد، ذات يوم، وطلبت منه أن يتولى متابعة أعمال نقل الدكاكين من اسم زوجها المتوفى إلى اسمها، ووعدته بأن تدفع له أجراً عالياً بعد انتهاء العملية. وأبو جويد وجد في هذا العمل فرصة لدفن الفقر والتشرد والنحس، معتقداً أنها ستجزل له العطاء بعد قيامه بالمهمة على أكمل وجه. لذا راح يعمل في متابعة الأعمال المطلوبة باجتهاد، ويركض من مكان إلى مكان، ويسخّر جهوده وجهود الناس الذين يحبونه في تذليل العقبات، فلما انتهى من كل شيء، فتح لها يده مثل جرن الحَمَّام، وقال لها:
- والآن صار وقت الحساب، تفضلي، يا ست أم كسار، ادفعي لي أجري.
قال أبو سعيد: مؤكد أنها أجزلت له العطاء.
- لا، أبداً. فقد تبين أنها بخيلة جداً، ونَصَّابة. راحت تتظاهر بأنها مشوشة الذهن، مسطولة، وصارت تحكي قصصاً غريبة، فتقول: طلعنا من صلاة الجمعة، وكان الطقس حاراً، والشمس تحرق جناح الدبور، وفجأة هبت رياح عاتية، وتشكلت زوابع، أخذت تدفع الأشجار، فتوقعها على الأرض، وتجمعُ الغبارَ والأتربةَ والأوساخ من الشوارع، وتذروها، والناس صاروا يركضون في الشوارع، ويصيحون (يا لطيف)، وهكذا حتى وصلتُ إلى البيت، فرأيت طفلاً متعلقاً بحافة السطح، وجسمه كان متدلياً إلى الأسفل، يولول ويصيح: أنقذوني، وإذا بمجموعة من الشبان، أحضروا بطانية، وفتحوها، وقالوا للولد: لا تخف عمو، افلت نفسك، ونحن نتلقاك.. وأنا هربت لأن قلبي لا يحتمل رؤية هذا المشهد العنيف، وبقيت يومين وأنا أرتجف في سريري خائفة، فهل يرضيك يا أبو جويد أن أموت وأنا ما أزال في مقتبل العمر؟
- قصة غريبة جداً. وماذا حصل بعدها؟
- هربت المرأة من أبو جويد، وأيقن أنها احتالت عليه، فأرسل إليها خبراً مع أحد معارفها، مهدداً بأنه سيرفع عليها دعوى احتيال، إذا لم تدفع له أجوره، ولكنها سبقته إلى المحكمة، وأقامت عليه دعوى، زعمت أنها أعطته سلفة ألف ليرة، لقاء مصاريف تسجيل الدكاكين، وأن عملية التسجيل كلفت أربعمئة ليرة فقط، وهو يرفض الآن إعادة 600 ليرة المتبقية في ذمته.
المهم؛ أبو جويد، حينما استقبل سمير بيك من العدلية الآتي لزيارته مع أبو فوزي، استبشر، وحَدَّث نفسه بأن هذا القاضي لا بد أن يساعده، فيهمس لزميله القاضي المختص بدعوى أم كسار عليه، لكي ينصفه، ويعفيه من المبلغ الذي طالبته به. قال لأبو فوزي:
- ادخل أنت وسمير بيك إلى الغرفة، وأنا سأغيب ربع ساعة وأعود.
وخرج بسرعة، باتجاه دكان الحاج عبدو بهرورة، سلم عليه، ورجاه أن يبيعه قليلاً من الفستق والبندق والقضامة، ووعده بتسديد ثمنها في أقرب وقت.
ضحك الحاج عبدو وقال ما معناه إن أبو جويد لا يؤخّر تسديد الديون التي عليه، بل إنه ينساها، وفتح دفتر الديون، وقال له انظر. اقرأ. حملق أبو جويد قليلاً، ثم وضع يديه على رأسه وولى هارباً. سبب هروبه أن الحاج عبدو بهرورة كان قد كتب في أسفل صفحة الدين الخاصة بأبو جويد ملاحظة هي (تم شطب الديون المستحقة على أبو جويد كلها، وأقسم بالله العظيم، إذا جاء مرة أخرى ليستدين، سأضربه بوزنة 2 كيلو غرام على رأسه، وأذهب لأسلم نفسي لمخفر الشرطة)!
- قصة رائعة، ومخيفة. وماذا جرى بشأن القاضي سمير بيك؟
- حكاية سمير بيك أحلى من حكاية الحاج عبدو بهرورة بكثير. فأبو جويد، حينما عاد إلى داره (وكره)، سمع ضرباً على طشت نحاسي كما لو أنها إيقاع على طبلة، راح يقترب من الغرفة دون أن يصدر عنه أي صوت، وينظر من شق الباب. رأى أمراً غريباً جداً. كان أبو فوزي يضرب على الطشت، وسمير بيك يرقص بطريقة جنونية!
- فعلاً هذا أمر غريب. ما الحكاية؟
- أبو جويد، يومها، خرج من الدار، ولم يعد حتى أيقن أن ضيفيه غادراها. وبعد يومين، أو أكثر، حضر أبو فوزي لزيارته. سأله أبو جويد عما جرى فقال:
- هذا، سمير، موظف بصفة حارس على باب القصر العدلي، وهو مصاب بعقدة نقص، لذلك يحاول أن يَظهر بأنه شخصية مهمة، فيرتدي ثياباً مثل ثياب القضاة، وعندما يقدم نفسه يقول: محسوبكم سمير بيك من العدلية! ومن الصفات العجيبة التي يتميز بها، أنه يحب الرقص. وأنا وجدت في غرفتك طشتاً، ورحت أضرب عليه إيقاعاً راقصاً، فقام وصار يرقص!