سورية... انتصار وفقر وجوع وبيع مطار
تعدّ المطارات المدنية في جميع دول العالم مرآة تعكس مدى تطوّر هذه الدول أو تخلفها، باعتبارها الواجهة الحضارية للدولة الحديثة. لذا عملت العديد من الدول على بناء أضخم المطارات، مزوّدة بأحدث التقنيات وأمهر الخبرات، مع كادر من الموظفين الذين يتعاملون بكلّ حضارة ورقي مع المغادرين والقادمين.
بعد مضي أكثر من ثلاثة وخمسين عاماً من إضاعة كلّ الفرص الذهبية، وبعد صرف مئات مليارات الدولارات على تكديس مختلف صنوف الأسلحة العسكرية، وبناء القصور والقلاع، من بينها أكثر من 33 مطاراً عسكرياً، تصحّرت البلاد نتيجة هدر المال العام، ما أدى لوقوع الكارثة الوطنية والإنسانية التي تشهدها سورية اليوم.
المدهش هنا، أنّه على الرغم من وجود كلّ هذه الفرق العسكرية، وكلّ هذه الترسانة والمطارات، إلا أنّ هذا لم يساهم بالحفاظ على سيادة التراب السوري، بل وتحوّلت إضافة لبعض المطارات الزراعية، إلى قواعد رئيسية للقوى الخارجية الداعمة للفاعلين المحليين. لذلك ها هي تلك القوى اليوم، تتقاسم ما تبقى من خيرات سورية، فروسيا توجد قواتها في 24 مطاراً، في حين توجد إيران في 31 مطاراً، من بينها بالطبع مطار دمشق، والذي تحاول جاهدةً تحويله لما يشبه مطار بيروت الدولي. أمّا التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، فيسيطر على 6 مطارات، وفقاً لمركز جسور.
ملخص القول: كارثة حقيقية يشهدها السوريون اليوم، بات بموجبها 90% منهم، يقبعون تحت خط الفقر و15 مليوناً بحاجة لمساعدات إنسانية، وفقاً للجنة الدولية للصليب الأحمر، والتي حذّرت من أنّ انهيار الخدمات الأساسية ليس "تهديداً بعيداً"، بل ستكون له تداعيات مدمّرة على الشعب السوري، خصوصاً بعد أن تخلّت السلطة عن دعم الخدمات الأساسية بسبب الإفلاس العام، لتترك المواطنين يتدبرون أمورهم بأنفسهم، ولذلك لا عجب أن تكثر اليوم في كلّ بلدة، وكلّ قرية، وكلّ حي، الصناديق التعاونية بمختلف مسمياتها: غذائية دوائية، تعليم، نقل.. الخ.
كارثة حقيقية يشهدها السوريون اليوم، بات بموجبها 90% منهم، يقبعون تحت خط الفقر و15 مليوناً بحاجة لمساعدات إنسانية
بعد كلّ هذه الويلات والانكسارات، فَطِنت السلطة الحاكمة في دمشق اليوم لأهمية هذه الواجهة الحضارية، لذا بدأت منذ سنتين تتحدث عن نيتها العمل على بناء مطار دولي جديد في دمشق، وبعد أن أفلست الدولة وتهالكت مؤسسات القطاع العام، تقوم اليوم بطرح هذا المطار للاستثمار، ويأتي ذلك ضمن خطة "إعادة إعمار البلاد" على حدّ قولها.
يُذكر أنّ مطار دمشق الدولي الحالي، قامت بتنفيذه شركة فرنسية بتكلفة أربعين مليون دولار، بالمناسبة هي نفسها التي أنجزت مطار "أورلي" في باريس. وقد اعتبر مطار دمشق حينها، أحد أكبر المطارات في الشرق الأوسط، كان ذلك قبل قيام حركة الأسد التصحيحية، والذي لم يلتفت لأهمية هذه الواجهة الحضارية سوى العام 1982، عندما أمر بتوسيع صالة الركاب مع بعض التحسينات، لذلك بقي مطار دمشق متخلّفاً عن جميع مطارات المنطقة.
وبدلاً من القيام ببناء مطار حديث يضاهي مطارات دبي والدوحة والرياض وحتى بيروت، أمر في عام 1980 ببناء ما سمّي بقصر الشعب، لتبلغ تكاليف بنائه ملياري دولار، وهي قيمة سنة من المساعدات الخارجية لسورية، وفقاً لما أورده صاحب كتاب "أطلس الشرق الأوسط العربي"، الكاتب فابريس بالانش.
يعني ذلك أنّ تكاليف هذا القصر في ذلك العام، قد بلغت بالليرة السورية أكثر من 10 مليارات ليرة، بحساب الدولار 5 ليرات، فضلاً عما تكشف عنه عبارة بالانش حيال قيمة الأموال الطائلة التي كانت تقدّم لسورية على مدار السنوات من قبل دول الخليج العربي، باعتبار سورية من دول الطوق العربي، قبل أن يتم اتخاذ قرار الوقوف إلى جانب إيران في عام 1980 في حربها بمواجهة العراق والدول الخليجية التي قرّرت التصدّي لهذا المشروع الإيراني المدمّر.
لقد كلّف هذا القرار سورية في ذلك الوقت، توقف جميع المساعدات الخليجية المالية، والتي كانت تقدّر بأكثر من مليار ونصف المليار دولار سنوياً. حيث لعبت هذه الأموال دوراً كبيراً على مدار السنوات، في حماية الاقتصاد السوري من الانهيار في أعقاب حربين مدمرتين، في عام 1967 وعام 1973.
كان الأسد يطالب السوريين بشدّ الأحزمة والصبر، فيما هو يبني قصراً يماثل قصور ألف ليلة وليلة
بالمناسبة كان الأسد يطالب السوريين بشدّ الأحزمة والصبر، فيما هو يبني قصراً يماثل قصور ألف ليلة وليلة، بإطلالته ومساحته الهائلة وقاعاته المرصوفة بالرخام ونوافير المياه وحدائقه الغنّاء.
وبالتالي، فإنّ كلّ هذه النفقات الباهظة، وكلّ هذا الرفاه والترف، كان على حساب الشعب السوري، الذي أخذ يعاني في الثمانينيات الأمّرين نتيجة ما شهدته البلاد من أزمات اقتصادية ومعاشية خانقة، قفز على أثرها سعر الدولار مع نهاية إنجاز هذا القصر عام 1990 من 5 ليرات سورية إلى أكثر من 35 ليرة، وهو ما قاد لارتفاع أسعار مواد البناء بشكل جنوني، حتى ناهز سعر طن الحديد الواحد مبلغ 35 ألف ليرة سورية، في حين كان راتب الموظف الحكومي بالكاد يتجاوز 3000 ليرة سورية.
بالمناسبة، كان الأسد يطالب السوريين بشدّ الأحزمة لمواجهة "العدو الصهيوني"، وهو بالطبع ما يتذكره السوريون جيداً، حينما كانوا يصطفون في طوابير طويلة على المؤسسات الاستهلاكية من أجل الحصول على المواد التموينية الأساسية.
لذلك لا غرابة أن تصف صحيفة "ذا غارديان" هذا القصر بأنه عبارة عن "نصب فارغ يردّد ديكور الدكتاتور"، والتي تضيف "أنّ هذا البناء الضخم يجثم فوق قمة التل مثل العيون الفارغة التي ترى كلّ شيء.. لذا لا يمكنك الهروب من الشعور بأنك تحت المراقبة من قبل بعض القوة الصامتة".
وهكذا تستمر حفلة الانتصار.... بيع مطار، فقر، جوع، ضياع وطن والحبل على الجرار..