سيرة العقل والجنون (21)
غادر الفتى الوسيم "خالد" منزلَ والده الظالم الذي يضرب أبناءه دون ذنب، ويحلق شعرهم بماكينة عتيقة مثلمة، واكتسب لقب "أبو الدكّ"، وأصبح مُصَنَّفَاً في خانة المجانين، وكان يمتلك شيئاً من النرجسية؛ يُقَرّب وجهه من برك الماء في الشتاء ليتمرى عليها، وفي الصيف يُنعم النظر في فوهات الآبار.. وفي يوم من الأيام كان يتمرى على مياه متجمعة بعد غسيل القمح لأجل صناعة السليقة، فشاهدته فتاة اسمها "خيرية"، أعجبت بوسامته، وبشعره الأشقر السابل المنسدل على عينيه. وهو كلمها، ووعدها بأن يرسل والدته ليخطبها من أهلها.
هذا هو ملخص ما رواه أبو الجود في سهرة الإمتاع والمؤانسة السابقة.
أبو الجود: ولما عرف أبو خالد من زوجته أن ابنُه خالد بده يخطب خيرية وقع بمشكلة، وهيي أنه كان مبطّل يضرب أولاده بالبريم (العقال)! وهادا الشي صار نتيجة حادثة وقعت قبل شهرين.. ملخص الحادثة أن أبو خالد كان عم يجرب البريم بإبنه محمود، وصار محمود ينط لفوق وينزل لتحت ويولول.. فغضب أبو خالد وضربه على راسه، والظاهر أن طرف البريم نزل على عين محمود، والعين صارت تنزف، والولد ما عاد يشوف، وأم خالد صارت تولول، وبعتت بنتها سلمى على بيت أخوها عبد الناصر، أجا عبد الناصر وأخد إبن أخته محمود بسيارته على إدلب، ولما وصل على قسم الإسعاف في المستشفى الوطني بإدلب، طلبوا له طبيب مختص بالعيون، الطبيب عاينه، وقال إنه هاي العين ما عاد يشوف فيها، وبعد شوي أجت دورية الشرطة وبلشوا يستجوبوا محمود حتى يعرفوا مين ضربه. محمود قال للشرطة إنه اللي ضربه واحد ندل، وسافل، وبخيل، وبشع.. ألحوا عليه حتى يقول اسمه، لكن خاف يقول اسم أبوه، لأن إذا عرف أبوه إنه جاب سيرته في التحقيق ممكن يقلع عينه التانية!
ولما رجعوا ع البيت، وعرف أبو خالد أنه عين إبنه راحت زعل كتير، وجاب الأبريق، وتوضى، ونَزَّل المصحف من ع الرف، وحلف يمين أنه طول عمره ما عاد يضرب حدا من أولاده. واللي صار بعدين أن أفراد العائلة كانوا قاعدين في الدار، ودخل خالد "أبو الدك" وقال له:
- ياب بدنا نبعت أمي تخطب لي خيرية..
أبو خالد طق عقله.. لازم يضربه أبو الدك بالبريم أو بالصباط أو بحبل ليف، لكن هوي حالف يمين، ومقتنع بأن اللي بيحلف يمين وبينقضُه ممكن يجيه فالج أو سكتة قلبية. قال لإبنه خالد: بدك تبعت أمك تخطب خيرية؟
قال أبو الدكّ المضنى بحب خيرية: أي نعم. وين المشكلة ياب؟ كل الشباب بيخطبوا وبيتجوزوا.
رد عليه أبو خالد: طيب، المسا برد عليك الجواب.
أم زاهر: وليش بقى المسا؟ كان بده يشاور عقله يعني؟
أبو الجود: لا والله يا أم زاهر. كان في براسه موضوع تاني. شيخ القرية "أبو عبد السلام" كان عنده دكانة (بقالية) قريبة من المسجد، راح أبو خالد لعنده، سلم عليه وقعد، وقال له يا شيخي أنا واقع بمشكلة، حلفت يمين أني ما أضرب حدا من ولادي، وهلق في واحد لازم أضربه من كل بد. بقى هالشغلة خرج نلاقي لها فتوى؟!
ضحك الحاضرون في سهرة الإمتاع والمؤانسة. وقال كمال:
- والله يا أبو الجود أنت معلم المعلمين في السرد القصصي. لكان بده فتوى!
أبو محمد: وأشو قال الشيخ؟
أبو الجود: حاول الشيخ أبو عبد السلام يعرف السبب المباشر للمشكلة، على أمل يهتدي لنصيحة يقدمها لأبو خالد بهالخصوص. قال:
- يا أبو خالد، أنا بعرف أنك مطفّش إبنك خالد من البيت، وهوي كافيك خيره وشره. بقى ليش بدك تضربه؟
أبو خالد: لو كان كافيني خيره وشره ما كان دخل علينا متل الكديش الفلتان وطلب مني أخطب له. هلق قلي من الآخر، في فتوى أني أضربه ولا ما في؟
أبو عبد السلام: أنت إنسان ظالم، وإذا مرتك وولادك ما سامحوك بدك تلاقي عند ربنا عذاب أليم.
نفخ أبو خالد نفخة قوية وطلع من الدكان. ومن يوميتها صار الشيخ خصمه، وين ما قعد بيحكي عليه.
أبو ماهر: أنا ما بعرف شي عن قريتكم، منشان هيك ما فهمت سبب غضب أبو خالد، يعني هاي البنت خيرية عليها سين وجيم؟
أبو الجود: قريتنا يا أبو ماهر ما فيها بنت عليها سين وجيم، لأن اللي بتعمل مشكلة بتروح في خبر كان.. لكن أبو خالد كان يضرب ولاده منشان ما يعطيهم خرجية فرنكين، والزواج كان في هديك الأيام بيكلف شي عشرة آلاف ليرة، يعني عن جد بيستاهل الضرب..
حنان: كتير كويس. هلق أنت شرحت لنا الأسباب اللي خلت أبو الدكّ يجن، لازم بقى نرجع لقصتنا الأصلية. في السهرة السابقة قلت لنا إنه صارت مع بكار مشكلة بخصوص المجنون أبو الدكّ. صح؟
أبو الجود: نعم. يا ستي، خلال الفترة اللي تشرد فيها أبو الدك ما رجع على بيت أبوه أبداً، وكانت أمه في بعض الأحيان تاخد له زوادة طعام وتروح لعنده ع الحاكورة، تشوفه وتقعد معه وتعطيه الزوادة، وتطلب منه يسترضي أبوه ويرجع ع الدار.. وكان يقلا دك دك.. طالما جوزك الدكّ موجود ما برجع.. المهم، لما عرف أبو خالد إن إبنه ترك الحاكورة اللي كان متشرد فيها، وانتقل على بيت بكار بلش يعمل مشاكل.
أبو محمد: يخرب دياره شقد قليل ناموس ووجدان. لازم يفرح، لأن بكار عم يدير باله على إبنه، مو يعمل مشاكل.
أبو الجود: أجا أبو خالد لعند بكار. دق باب الدار. فتحت له أم بكار. قال لها: وينه إبنك المنظوم؟ وينه؟ ابعتي لي ياه.
سمع بكار الصوت، وعرف أنه هادا أبو خالد وأنه جاية يعمل مشكلة، جاب عصاية، سندها ورا الباب، وطلع. قال له: نعم؟
أبو خالد (بصوت مرتفع): الله لا ينعم عليك. أنت مفكر ولاد الناس مدشرين وسايبين وما إلهم أهل؟
بكار: أنا ماني مفكر، لكن هاي هيي الحقيقة. إبنك خالد مثلاً، مدشر، وسايب، وما إله أهل. ويا ريت ما إله أهل، كان أحسن. لأن إذا الواحد أنت أبوه بيكون اليتم أحسن له.
أبو خالد: أنت ما بتعرف حدودك يا إبن كَرَم الحجي.
ورفع إيده، بده يضربه، بكار بلمح البصر شال العصاية وضرب أبو خالد على إيده، فانكسرت!
(للقصة تتمة)