سيرة العقل والجنون (24)
شعر الشاب "بكار" بالامتنان للظروف التي قادته للتعرف على الرائد فاتح، مدير ناحية معرتمصرين، فهو، أي بكار، عاش ما مضى من حياته مع أب بخيل، في قرية صغيرة، نائية، علاقاتها الاجتماعية محدودة، ومغلقة.. والدته إنسانة طيبة وعاقلة، ولديه مجموعة من الأصدقاء الذين يشبهونه، فهو، بمعنى من المعاني، رجل ذو أفق محدود..
أثناء وجوده في بيت مدير الناحية كان يفكر في أن نساء قريته لسن متعصبات، فإذا دخل ضيف لزيارة رب الأسرة تأتي سيدة البيت وتضع أمامهما الشاي، وهي باللباس الذي تذهب فيه إلى الحقل نفسه، أما في أسرة الرائد فاتح فالعلاقات أكثر تحرراً.. فكر أن اللباس الذي ترتديه زوجة مدير الناحية "أم عمر" يصلح لغرفة النوم فقط، فهي بقميص منزلي، ليس له أكمام، وياقته مفتوحة تُظهر أعلى الثديين، والتنورة تعلو ركبتيها بقليل، والبنت الصبية التي أحضرت القهوة، كانت ترتدي بنطالاً ضيقاً، وفوقه بلوزة نصف كم، وقد صافحت بكار، ورحبت به، وقدمت له القهوة وانصرفت.
الفكرة الأخرى الراسخة في ذهن بكار هي أن ضباط الشرطة، بشكل عام، غليظون، وجشعون، ومتعجرفون، ولكنه وجد شخصية الرائد فاتح مختلفة تماماً، رجل منفتح على الآخرين، ومتفهم، وميال للمساعدة، وقد أدهشته طريقته في السخرية والتنكيت عندما قال إن كسر يد أبو خالد سببت له تعطلاً عن العمل، لأن اليد التي كُسرت هي التي كان يضرب بها أولاده، وخلال هذه الفترة سيعيش الأولاد عيشة هانئة، لأنه لا يستطيع ضربهم، والحق في ذلك، بالطبع، على بكار الذي ضربه بالعصا فكسر يده.
هذه الانطباعات نقلها إلينا أبو الجود، في سهرة الإمتاع والمؤانسة، وأعلمنا أنه عرف تفاصيل اللقاء كلها من صديقه بكار. وأضاف أبو الجود: في السهرة الماضية حكيت لكم إنه مدير الناحية أمر رئيس المخفر بأنه يسجن بكار ع الورق، واقترح على بكار إنه يصالح أبو خالد، ويخليه يسقط حقه عنه، لقاء مبلغ من المال. الرائد فاتح لاحظ إنه بكار ما عنده أي خبرة بهاي الأمور، فعرض عليه مساعدته.
قال الرائد: لما بيطلب منك الصلح صالحُه فوراً، ولا تتشدد معه بالسعر، إذا بيعطيك خمسين ليرة خدها وأسقط حقك عنه
بكار تحمس وقال له: والله يا ريت. لأن هادا أبو خالد ما بيندار معه حكي، وطماع، وعقله دَكَر.
الرائد فاتح اتصل برئيس المخفر، وطلب منه يجي لعنده ع البيت. وقبلما يوصل رئيس المخفر دخلت البنت الصبية وقالت: بابا تفضل إنت وضيفنا على أوضة السفرة. العشا جاهز.
ولما كانوا عم يتعشوا أجا رئيس المخفر. طلب منه الرائد فاتح أنه يروح بسيارة المخفر ع قرية البلاطة، ويجيب معه أبو خالد اللي مدّعي على بكار، لكن بدون ضغط. قال له: سلم عليه، وقلّه مدير الناحية حابب يشوفك ويتعرف عليك. ما بدي يشعر إنه في شي ضده.
رئيس المخفر قدم التحية للرائد وطلع، وبعد شوي دخلت أم عمر وقعدت معهم ع العشا، وصارت تسأل بكار عن عيلته، ولما عرفت إن والدته في البيت لحالها، قالت لزوجها: شي مرة يا أبو عمر خدني لعند الست أم بكار حتى أتعرف عليها. يا أما إذا بيجي الأستاذ بكار على معرتمصرين بيجيبها معه حتى نتشرف بزيارتها إلنا.
قال أبو عمر: أنا بشوف أن طالما هيي أكبر منك بالعمر، المفروض إنتي تزوريها بالأول.
تابع أبو الجود رواية القصة بأسلوبه المشوق، قائلاً إن مدير الناحية طلب من بكار أن ينتظر في المخفر، لأنه يريد أن يلتقي بـ أبو خالد على انفراد. المهم، بعد حوالي ساعة، وصل أبو خالد، وقد تعامل معه الرائد فاتح بطريقة سماسرة العقارات، فإذا أنتَ ذهبتَ إلى السمسار لتشتري داراً يقول لك إن الشراء في هذه الفترة عين العقل لأن الأسعار منهارة، وإذا جئته تريد بيع دارك يقول لك: السوق في النار، راح تاخد بدارك سعر عالمي!
حنان: ممكن نعرف وين وجه الشبه بين السمسار ومدير الناحية في موضوع أبو خالد؟
أبو الجود: نعم. لما التقى مدير الناحية بأبو خالد صار يخفف من أهمية العمل اللي ارتكبُه بَكَّار لما كسر له إيده، أكد له أن القاضي من أول جلسة راح يطلق سراحه، لأن بكار ضرب أبو خالد بالعصاية وهوي في حالة الدفاع عن النفس، وأكد له كمان أن بكار شخص مدعوم، وإله معارف كتير في الحزب والدولة والمخابرات، وقال له: من لما جبناه لهون وحطيناه في النظارة أجاني خمسين تلفون، من شخصيات كبيرة، عم يوصّوا فيه.. وهدول أكيد بكرة بيحكوا مع القاضي، وبيطلق سراحه، وأنت يا أبو خالد بيكون ضاع حقك.
أبو خالد أحس بالعطب، وقال لمدير الناحية: والله معك حق يا سيدي. برأيك أشو لازم أساوي؟
قال الرائد: لما بيطلب منك الصلح صالحُه فوراً، ولا تتشدد معه بالسعر، إذا بيعطيك خمسين ليرة خدها وأسقط حقك عنه.
أبو خالد: لا والله يا سيدي، خمسين ليرة قليل، أنا حاطط مصاريف عشرين ليرة.
الرائد: معناتها خود سبعين. أخي، أنا بدي حاول أحصل لك منه مية ليرة. إذا بكار وافق ع المية ليرة خدها واضحك في عبك. بعدين هادا واحد بكار مجنون، عم يجمع الشباب المجانين وبيطعميهم وبيسقيهم وبينظفهم ع حسابه، وإبنك بيناتهم. هلق إذا بيقلّع إبنك خالد، بيصير عبء عليك. أنا برأيي خود مية ليرة وتيسر ع القرية تبعك.
أبو الجود: كانت المية ليرة في هديك الأيام إلها قيمة، وأبو خالد انبسط كتير، وأبدى استعداده لإسقاط حقه، لكن بشرط، إنه يستلم المية ليرة سلف، لأن على قولة المتل (بعد العرس ما في قرص).. لكن بكار، بوقتها، ما كان شايل مصاري، واضطر الرائد فاتح يدفعها من جيبه.. وأسقط أبو خالد حقه الشخصي عن بكار.. وتاني يوم تم تحويل بكار على قاضي الصلح في معرتمصرين، مع محضر إسقاط الحق الشخصي، والقاضي أطلق سراح بكار..
أبو محمد: علي الحلال هالقصة متل أفلام السينما. طيب وبعدين؟
أبو الجود: بكار بعدما أخلي سبيله بشي يومين أو تلاتة يوم عمل عزيمة لعدد من وجهاء الضيعة، وعزم مدير الناحية ورئيس المخفر.. وزوجة مدير الناحية "أم عمر" وبنتها الصبية أجوا لعند أم بكار، ولما شافوهن أهل القرية تفاجؤوا بلباسهم وكونهن بدون حجاب.. وطبعاً بكار سدد للرائد المية ليرة اللي دفعها عنه، ونسوان القرية صاروا يقولوا إن هاي البنت خطيبة بكار.. مع أن بكار في هديك الأيام ما كان جاية على باله يخطب أو يتزوج.
(وللقصة تتمة)