سيرة العقل والجنون (30)
وقع الفتى خالد، الملقب "أبو الدك"، العاقل حالياً المجنون سابقاً، في أزمة نفسية كبيرة. كان يرغب في أن يتزوج الصبية عفراء ابنة مدير ناحية معرتمصرين، وعندما عرض الأمر على صديقه بكار، واجهه بموقف سلبي، إذ قال له:
- هاي مشكلتك يا خالد، إذا بدك عفراء روح اخطبها.
وفكر أبو الدك أنه لا يستطيع أن يفعل أي شيء دون مساعدة بكار، لذلك هام على وجهه، وحينما وصل إلى الطريق العام مرت سيارة أجرة ذاهبة باتجاه بلدة معرتمصرين، فاستوقفها وركب فيها، وهناك، في معرتمصرين، وقع في أزمة أكبر من سابقتها، وهي أن البنت عفراء كانت واقفة على نافذة منزلها، فلما رأته، (وهو، بالمناسبة، شاب وسيم ذو غرة نازلة على عينيه) اهتمت به، وصارت تعطيه إشارات أن يصعد إليها ويكلمها. تملكه الخوف في البداية، ولكن الطيش الذي يمتلكه الشباب في هذا العمر جعله يركض إلى مدخل البناية، ويصعد الدرج بسرعة حتى وصل إلى باب البيت، ووقتها فتحت عفراء الباب، وهي فتاة سافرة، وثيابها غير محتشمة، وقالت له:
- أنت مين؟
- أنا خالد.
- أهلاً وسهلاً. قلي يا خالد. أنت ليش عم تتطلع فيني؟
- آ؟ ما بعرف. شفتك عالشباك تطلعت. أنا والله غرضي عاطل.. لأ لأ، قصدي أقول إني.. غرضي شريف.
ضحكت عفراء وقالت متهكمة: عظيم، معناها خلي يجوا أهلك يخطبوني.
ودخلت وأغلقت الباب.
تابع أبو الجود رواية هذه الحكاية في سهرة الإمتاع والمؤانسة فقال:
- في هداكا اليوم كل تعب صديقي بكار راح ع الفاضي. قبلما يحب "أبو الدك" بنت مدير الناحية كانوا كل أهل قرية البلاطة عم يحكوا عنه بالخير، على أساس أنه رجع لعقله والحمد لله، وصار يلبس منيح، ويحكي كلام مدوزن، ولما بيشوف رجال واقفين أو عم يشتغلوا يقول لهم (السلام عليكم)، وصاروا شباب القرية لما يشوفوه يسلموا عليه باحترام.. وفجأة طق عقله، وصار يمشي ويتلفت ويصيح أبو الدك، أنا أبو الدك على سن الرمح.. ولما وصل ع الساحة اللي قدام الجامع صار يسند إيديه ع الأرض ويتشقلب في الهوا.
أم زاهر: ولي على هالحالة. طيب وبكار؟ ما عرف هالشي؟
أبو الجود: كان بكار قاعد مع والدته وعم يحكوا بموضوع النقلة ع معرتمصرين. أم بكار عاشت طول عمرها في قرية البلاطة، ومو متشجعة ع العيشة في معرتمصرين، وهوي عم يقنعها، وبيقول لها إن معرتمصرين قريبة، وإنه بعدما ينتقلوا راح يعمل شهادة سواقة، ويشتري سيارة، وكلما أم بكار اشتاقت للقرية بيجيبها وبيجي. وقال لها كمان:
- هاي الدار ما راح أبيعها، لما منجي لهون منقعد فيها، أحسن من نرمي حملنا عالناس، و..
وفجأة دخل المجنون "طق مصد" وهوي مسرع متل الصاروخ وعم يصيح:
- جَنّ جَنّ.. تعا شوف يا أبو كرم، أبو الدكّ جن.
علق أبو محمد على كلام أبو الجود. قال:
- الله يعين بكار على هالعلقة مع المجانين. أكيد أموره تخربطت.
أبو الجود: بالعكس. لما فهم القصة من طق مصد (اللي اسمه نبهان) ما عمل أي شي. وقال له:
- أبو الدكّ بيجن، بيعقل، هوي حر. أنت يا نبهان أشو رأيك؟
طق مصد: رأيي إنه هادا رفيقنا وأخونا. إذا منتركه بيتبهدل.
بكار: بس أنا ما تركته. عملت كل شي منشانه، حتى كنت مفكر أخطب له وأجوزه وأستأجر له بيت في معرتمصرين، وأفتح له محل في سوق الهال. ولما لقيته مصر على إنه يجنّ قلت له: جَنّ مين ماسكك؟
طق مصد: هوي قال لك بدي جن؟
بكار: لأ. قال لي إنه بده يخطب عفراء..
تدخلت أم بكار: مين عفراء؟ لا يكون بنت مدير الناحية؟
بكار: نعم. تصوري بده يخطب بنت مدير الناحية.
أم بكار: معناتها أكيد جن.
تابع أبو الجود:
- بكار طلب من طق مصد إنه يدخل لعند رفقاته ع الدار وينسى موضوع أبو الدك. ولما طق مصد ألح عليه إنه يلحقه قبل ما تزيد حالته، رد بكار:
- يا نبهان كبر عقلك، أبو الدك مو مجنون، بس هلق عم يغلط بحق نفسه، وإذا نحن منسانده راح يتمادى، لكن لما ما بيلاقي حدا واقف معه بيرجع لصوابه.
حنان: المهم خاي أبو الجود. أيش صار مع أبو الدك بعدين؟
أبو الجود: لما أبو الدك عمل شقلبات في الساحة صاروا الرجال الموجودين يقولوا (اللهم ثبت علينا العقل)، وفي نسوان سمعوا الصوت وصاروا يقولوا (مسكين هالصبي بيعقل يومين وبيجن سنة. الله يعين أم خالد). وأنا كمان، كنت دائماً أقول الله يعين أم خالد.. بتعرفوا ليش؟
أبو ماهر: ليش؟
أبو الجود: لأن زوجها بخيل وظالم وطماع وما بيستحي، وإبنها اللي كانت مفكرته عاقل وبده يخطب خيرية ويتزوج ويفتح بيت رجع جن. ومو بس هيك، دخل خالد، في هداكا اليوم، ع الدار متل النمر الجارح، وهوي عم يصيح أنا أبو الدك. الحقوني أحسن ما أرتكب جريمة.
كمال: أنا كنت أقول إنه أبو الجود معلم في رواية القصص. هلق بدي أضيف أنه معلم كبير. لاحظوا إنه وَصَّلْ قصة "أبو الدك وعفراء" في هاللحظة لذروتها.
أبو المراديس: وطالما وصلها لذروتها لازم بقى يقفلها.
أبو الجود: أبو خالد، والد أبو الدك، لما شاف الأمور لايصة لبس تيابه وطلع من البيت. خاف إنه يتصرف تصرف مو مناسب ويزعل منه بكار، لأن بكار بنظره مصدر رزق ممتاز. وعلى قولة المتل (ما بقي في الميدان غير حديدان). وبلا طول سيرة، أبو الدك حكى الحكاية لأمه بالتفصيل، وطلب منها ترافقه ع معرتمصرين وتخطب له عفراء. وأم خالد لما شافته مجحش، وما في مهرب منه قالت له:
- بروح معك وبطلب لك إياها، بس بشرط؛ بدي إحكي للجماعة كل شي، ماني مستعدة أكذب.
أبو الدك: موافق.
أم خالد: وإذا قالوا لنا ما في نصيب إنته لازم تقتنع وترجع لعقلك.
أبو الدك: موافق.
أم خالد: طيب استنى لحتى إلبس تياب الطلعة.
***
أبو الجود: هادا اللي صار، وللقصة بقية.