صراع التاريخ والذاكرة على أحقيّة تمثيل الماضي
في مقال بعنوان "مأزق التاريخ" منشور في مجلة الفلسفة عام 1935، يرى الفيلسوف الألماني، يوجين روزنستوك هويسي، بأنّ صراعاً نشأ منذ بداية القرن العشرين بين التاريخ والذاكرة على أحقيّة تمثيل الماضي. ويميّز هويسي بين التاريخ كعلم والذاكرة كانطباعات وأحاسيس حالية لدى الناس عن تجارب بشرية جماعية حدثت في الماضي.
وبهذا السياق، فإنّ الماضي هو ما حدث بالفعل. الذاكرة هي ما يؤمن به الجمهور على أنه حدث فعلاً في الماضي. وترتبط رواية الذاكرة لكلّ حدث بانطباعات وأحاسيس الجمهور عنه من الإحساس بالفخر أو العار تجاه حدث ما. فالذاكرة بهذا المعنى، هي وجه التراث. أما التاريخ فهو علم موضوعي له أدواته ومهمته الكشف عما حدث فعلًا عبر نقد هذه الذاكرة، تنقيتها وتصحيحها. فعلى سبيل المثال، معركة القادسية هي حدث وقع في الماضي، وذلك ما نعنيه بالماضي. الإحساس بالفخر أو العار لدى أحدهم اليوم لمجرّد سماع اسم هذا الحدث، فذلك نابع من ذاكرة الجماعة. أما التاريخ فمجاله البحث، النقد والتمحيص لتقديم رواية مقاربة لما حدث فعلاً. فالأحاسيس مكانها ضيّق جداً في أروقة البحث التاريخي العلمي. وعلى الرغم من مضي ما يقارب القرن على نشر مقال هويسي، إلا أنّه اليوم جدير بالدراسة والتأمل أكثر من أيّ وقت مضى، خصوصًا في سياق الفكر العربي المعاصر، حيث يبلغ الصراع بين التاريخ والذاكرة ذروته.
يرى هويسي أنّ القرن التاسع عشر، كان بمثابة العصر الذهبي لعلم التاريخ. كان المؤرخون حينها القادة السياسيين في المجتمع. مثّل المؤرخ حينذاك ذاكرة المجتمع وضميره الواعي، ولم يكن هناك أيّ تناقض بين معرفة الماضي وقيادة الحاضر. ولم يكن هناك أيّ صراع حينها بين التاريخ والذاكرة. بل على العكس من ذلك فقد قدم التاريخ خدمة جليلة للذاكرة، وذلك بحفظ التراث من التفكك والاندثار. فمع بدايات القرن التاسع عشر سقطت فكرة أبدية التراث نتيجة عوامل عدّة، أهمها الثورة الصناعية وما رافقها من تغييرات اقتصادية واجتماعية بنيوية من جهة وانهيار سلطة الكنيسة من جهة أخرى. هنا ظهر علم التاريخ كحام لهذا التراث. حينها وجد المؤرخون، وفي مقدمتهم مؤرخو المدرسة الرومانسية، أنفسهم أمام حالة طارئة تستوجب التحرّك بسرعة وشغف لحفظ هذه التراث من الضياع. ولأنّ أسلوب الطوارئ ذلك المتميّز بالسرعة والشغف، أنقذ جزئياً الذاكرة من الضياع، فقد ظلّ الأسلوب المتبع لدى معظم المؤرخين لاحقا، حتى بداية القرن العشرين، أي تاريخ كتابة هويسي لمقاله مأزق التاريخ.
نتأرجح عربباً ما بين الذاكرة والأسطورة، وليس للتاريخ سوى فسحة ضيقة جدا في الكتب العلمية وبين أروقة الجامعات
الأيام الذهبية لعلم التاريخ قد ولّت مع بداية القرن العشرين كما يرى هويسي، ولم يعد المؤرخ قائدا موثوقًا في مجتمعه. فالتاريخ لم يعد ينسجم مع الذاكرة والتراث المجتمعي. بل على العكس من ذلك، لقد أصبح التاريخ على الجانب النقيض تمامًا من الذاكرة أو التراث، خصوصًا بعد الحرب العالمية الأولى. فذاكرة الأمة كما يصفها المفكر والفيلسوف الأيرلندي إدموند بيرك "ليست مجرّد تعبير عن حيّز محلي، وليست اتفاق ذواكر فردية في مرحلة ما. ويكمن جوهر الأمة في الاستمرارية، والتي تمتد في الزمان والحيّز. كما أنها ليست خيار يوم واحد ولا خيار مجموعة من الناس. ليست إرثا ولا خيارا عبثيا. إنما هي نتاج تركيب ونظام معقّد صنعته ظروف غير مألوفة، ومناسبات ومزاجات غير مترابطة، خلقت باستمراريتها قيما وعادات مجتمعية مدنية لجماعة بشرية أحاطت نفسها بحيّز زماني ومكاني". وبناء على تعريف بيرك لذاكرة الأمة، فإنّ المؤرخ حينما يشرع بكتابة التاريخ فهو لا يبدأ بمنطقة عذرية، إنما عالم مليء بالأحداث البشرية؛ أحاسيس، عادات، اكتشافات، تضحيات، مشاعر... وتأريخ الذاكرة يستوجب عزلها عن هذه الأحاسيس والانطباعات المرتبطة بحدث أو اسم ما، لكن لا يجوز بأيّ حال من الأحوال تجريدها كليّاً من هذه الأحاسيس والانطباعات. فالتاريخ برأي هويسي مهمته التنقية والتصحيح، وهو عاجز بأيّ حال من الأحوال عن خلق أسماء يتم استذكارها جماعيًا كخبرة بشرية. كي يوضّح ذلك يحلّل هويسي معركة واترلو: "ينخرط الجنود في معارك لا يفهمون أسبابها. يقسم الرجال على الولاء والطاعة. يبكي الأطفال، وتحاول النساء جمع ما يمكن جمعه… ويزداد تورط الأفراد المشاركين وعنفوانهم لخلق تجربة جماعية. معركة واترلوا أصبحت اسماً يخلّف انطباعات جماعية وراءه، وذلك قبل أن يكشف عنها المؤرخون بوقت طويل. فالتاريخ هنا يصحح مفاهيم ويقدّم تعريفات مرتبطة بهذه الاسم الذي يحمل وراءه ذاكرة جماعية، أما الاسم فهو نتاج التجربة البشرية نفسها وما تحمله معها من انطباعات".
أساطير وذواكر جماعية متصارعة، فيما بينها تحاول إقصاء التاريخ خارج الحلبة
أمام هذا المأزق بين التاريخ والذاكرة يطرح هويسي الفلسفة كحل من أجل الموازنة بين التاريخ الذي في الواقع يعادي التراث والذاكرة التي تمجد التراث. ويرى بأن هذا لا يعني بأنّ المؤرخين من أمثال مؤرخي المدرسة التجريبية لا يملكون أدوات فلسفية، بل فقط إحساسهم بالفلسفة سيئ. أما التجريديون من أمثال هيغل ومؤرخي المدرسة العقلانية من الكانطيين والكانطيين الجدد فقد كانوا انتقائيين. فهم على الرغم من معاداتهم للتراث، فقد استثنوا جزءاَ محدّداَ من التراث ورفعوه إلى مرتبة القداسة، وهو التراث الذي يعبّر عن إرث الفلسفة اليونانية. المؤرخ الجيد بحسب هويسي هو من يستطيع الموازنة بين فلسفته وبحثه العلمي. ويختتم هويسي مقاله بالدعوة إلى المصالحة والتوفيق بين التاريخ والذاكرة لأنّ صراعهما سيؤدي إلى فراغ ستملؤه، بلا شك الأسطورة الوطنية، الاجتماعية والعرقية.
لو أردت قراءة واقع الوعي الجمعي العربي اليوم من منظور فلسفة هويسي، فيمكنني القول بأننا نتأرجح ما بين الذاكرة والأسطورة، وليس للتاريخ سوى فسحة ضيقة جدا في الكتب العلمية وبين أروقة الجامعات. أساطير وذواكر جماعية متصارعة، فيما بينها تحاول إقصاء التاريخ خارج الحلبة. على سبيل المثال تتصارع الذواكر الطائفية المختلفة كلّ منها على تناقل أساطير أحادية الجانب لأحداث الماضي دون الاحتكام للتاريخ الذي يجب أن يكون أقرب للصواب. وكذا تفعل الذواكر العرقية وغيرها.