صمتُ النسويّة البيضاء المؤيّدة للاستعمار على إبادة الفلسطينيات/ين

16 اغسطس 2024
+ الخط -

تستغربُ أغلب النساء المُتابعات لحرب الإبادة على الفلسطينيين/ات من صمتِ المُنظّرات النسويات البيضاوات اللواتي أفضن في تفسير أهميّة الأخواتية والتضامن النسوي والتعاطف والتشبيك والمناصرة... ولكنّهن اليوم، لا ينبسن بكلمةٍ، إمّا تواطؤًا مع الأنظمة الإمبريالية والاستعمارية والرأسمالية والنيو الليبيرالية أو خوفًا على مصالحهن ومواقعهن وامتيازاتهن. فكلّ بيان مناصرة صار يُفهم على أنّه معاداة للسامية، وكلّ تعاطف بات يُعتبر اصطفافًا وراء "حماس الإرهابية".

غير أنّ هذا الصمت متوقّع لا سيما إذا استحضرنا التاريخ. فمنذ القرنين الخامس عشر والسادس عشر، انخرطت نساء الشمال في تجارةِ الرقيق، فامتلكن أجساد الناس وحولنهم إلى أدواتٍ وصرن يُفاوضن ويجادلن ويعاقبن ويَهدين العبدات... ومعنى هذا أنّ هذا المتخيّل العنصري الذي يُجيز اضطهاد الآخرين والتصرّف في مصيرهم ومصادرة حقهم في العيش ويعتبرهم مجرّد "نفايات" يجب التخلّص منها، ما زال حاضرًا يطفو بين الحين والآخر على السطح ويظهر في الخطاباتِ بوعيٍ أو دون وعي. 

تاريخُ نسوّياتِ الشمال مُلطّخٌ بعرقِ ودماءِ الرقيق وهو موصول إلى حركاتِ الاستعمار التي باتت تستحوذ على قضايا النساء، فتحوّلها إلى سلاحٍ يُرفع في وجه الشعوب "المتخلفة" و"البدائية"، تحت شعار التحضّر أو خطاب التنمية، وأخيرًا بدعوى حماية حقوق النساء وتحرير المسلمات وإنقاذهن من رجالهن. وبما أنّه تاريخ يؤكد تورّط النسويات البيضاوات في دعم الاستعمار وغزو أفغانستان والعراق، فلا عجب أن تصمتَ أغلب المُنظّرات ويصيبهن العمى. 

تُعيد النسويات الداعمات لاستعمار الشعوب إنتاج الصور القديمة والسرديات التي تبرّر الاستعمار وتشرعن الحرب

إنّ هؤلاء النسويات المعروفات بنضالهن، مثلا ضدّ العنف المبني على النوع الاجتماعي، لا يعترفن بالعنف المادي والجنسيّ والنفسيّ والرقمي المُوجّه ضدّ الفلسطينيات (كالاغتصاب والتعذيب والتجويع والقهر والتنمّر والتقتيل...)، لأنّ ما يُهمّهن هو العنف المسلّط على مثيلاتهن: النساء المنتميات إلى "دول التحضّر"، وهو أمر له صلة أيضًا بتمثّل إسرائيل على أنّها دولة متحضّرة وديمقراطية في مقابل تمثل العرب وغيرهم من الشعوب على أنّهم ينتمون إلى العالم الثالث أو العالم غير المتحضّر. وهنا تُعيد النسويات الداعمات لاستعمار الشعوب إنتاج الصور القديمة والسرديات التي تبرّر الاستعمار وتشرعن الحرب. كما أنّهن يُساهمن في التسويق لسرديّة اغتصاب رجال المقاومة للنساء، فيحفّزن الأخريات على التعاطف مع الإسرائيليات. وهكذا لا تنطبق الأخواتية والتضامن على جميع النساء بل تخضع المناصرة للأيديولوجيا والسياسة و... وبالرغم من وجود تقارير أمميّة وتحقيقات صحافية تنقل صور اغتصاب الفلسطينيّات في السجون والمعتقلات واستهداف الحوامل... فإنّ نسويات الشمال لا يحرّكن ساكنًا ولا ينظمن حملات المناصرة إلا لصالح الأوكرانيات والإسرائيليات ضحايا الحروب. 

تُسوّق بعض نسويات الشمال المُهيمنات على وسائل الإعلام لفكرة التآخي بين الفلسطينيات والإسرائيليات، فتوضع هؤلاء في كفّة واحدة  توحي بالتكافؤ، والحال أنّ الأخواتيه مرتبطة بعوامل أخرى كالعرق والاحتلال والفقر والتهجير والآلام والتجارب القهرية وغيرها، وهي ذات بناء هرميّ تراتبي. فهل يمكن اليوم طرح الأخواتية بين جميع النساء؟ وهل يمكن الحديث عن المستقبل المشترك والعيش المشترك والإسرائيليات يعشن في نظامٍ يُمكنّهن من التمتّع بمجموعةٍ من الامتيازات على حساب الفلسطينيّات؟ ولذلك فإنّه لا يحقّ للنسويّة البيضاء أن تقرّر مصير غزّة نيابةً عن الفلسطينيّات وتعيد هيكلة العلاقات الاجتماعيّة وفق شروطها ولا يمكنها الاستحواذ على حقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم.

لا ثقة لنسوياتِ الجنوب في مُنظّرات استعملن الأدبيات النسويّة لتبرير خطاب الهيمنة وعمليات الإبادة ونظام العسكرة 

لم تتعلّم نسويّات الشمال من أخطائهن السابقة التي فضحتها النسويّة السوداء عندما أشارت الباحثات إلى دعم النسويات للاستعمار وممارسة العنصرية وارتكاب جرائم بشعة. ولم تُسائل أغلب نسويّات الشمال تاريخهن، ولا هنّ بصدد ممارسة النقد الذاتي، ولذلك فلا ثقة لنسوياتِ الجنوب في مُنظّرات استعملن الأدبيات النسويّة لتبرير خطاب الهيمنة وعمليات الإبادة ونظام العسكرة ووقفن متفرّجات على مشاهد الترويع والسحل والتعذيب والتقتيل... هيهات أن تَنسى الفلسطينيّات، إنّ التاريخ لن يرحم من كنّ صامتات.

ولأنّ "حياة الفلسطينيّات مهمّة"، فإنّ على النسويات المُناصرات للقضيّة الفلسطينيّة أن يُؤسّسن لحركةٍ نسويّةٍ تضامنيّةٍ مُناهضة للاستعمار والإمبريالية تدفع باتجاه تحرير الأصوات المقموعة وتقف بوجه النسويّة الاستعماريّة الإمبرياليّة. ثمّ إنّ على النسويات التذكير بالنكبة وبجميع المجازر وتفكيك السرديات، فالحرب لا تُشنّ للقضاء على حماس بل لمحو الفلسطينيين من الوجود وشطب حضورهم في التاريخ والذاكرة، والاغتصاب ليس إلّا سلاحا في الحرب، استُعمل لتهجير الفلسطينيين وهو مرتبط باغتصاب الأرض والأجساد: نساءً ورجالًا، وها هو يوظّف للإمعان في إذلال كلّ العرب/ المسلمين/ القوّامين/ الأشاوس على النساء المنكسرين أمام الأنظمة الإمبريالية الاستعمارية.

آمال قرامي
آمال قرامي
أستاذة دراسات النوع الاجتماعي بالجامعة التونسية، ناشطة حقوقية وكاتبة.