صناعة المفكر (1)
يعتبر المفكر صمام أمان المجتمع والأمة، بحيث إذا أُحسن إعداده أمكننا التغلب على الكثير من المشاكل الحقيقية، لأننا بهذا الإعداد العميق والدقيق لهذه العقلية نكون قد غرسنا أول لبنة في بناء الأمة. تكوين المفكر يتم إما باكتشاف القدرات والطاقات الكامنة بداخله نتيجة البيئة المحيطة به التي أنتجت وأخرجت هذا المفكر وساعدته على أن ينمي مهاراته وقدراته العقلية حتى يصبح مفكراً، أو الخيار الآخر نتيجة امتلاك الشخص لبعض المهارات والقدرات التي لم تجد من يكتشفها أو ينميها، وهذا هو مجالنا اليوم كيف يمكن تهيئة البيئة الملائمة التي من خلالها نصل بالشخص إلى منزلة المفكر؟ وما هي المتطلبات من الشخص ليكون مفكراً؟
لصناعة أو تكوين المفكر نحتاج إلى جهد فردي وآخر جماعي ويتكامل كل منهما مع الآخر ليصنع شخصاً يمتلك مهارات وأدوات المفكر. وسنتناول في هذا المقال الجهد الفردي، المفكر لا يكون مفكرا إلا إذا كان مثقفا يمتلك القدر الكافي من الثقافة والمعرفة التي تؤهله لأن يربط بين العلوم المتداخلة بعضها مع بعض، فنجده يقرأ في السياسة، والاقتصاد، والتاريخ، والفلسفة، والمنطق، والعلوم الإدارية، والاجتماعية، ويطلع على ما يحدث في العالم في القضايا المطروحة أولاً بأول، فالأحداث متداخلة ومتشابكة ولا نستطيع أن نفرد قضية بدون تداخلها مع قضايا أخرى، فالمتطلب الأول لتكوين المفكر هو القراءة المثمرة المفيدة.
المفكر الحقيقي هو الذي يفكر في حل المشاكل دون قيد أو شرط، سواء أكان منتمياً لحزب
أم لجماعة أم لقبيلة أم لجهة أم لمؤسسة
من المتطلبات أيضاً للمفكر أن تكون عنده سرعة بديهة لربط الأحداث بعضها ببعض حتى يستطيع أن يبدع في حل المشكلات باستخراج حلول مبدعة وجديدة للمشكلة، وهذا لا يكون إلا من خلال محاولة إعمال العقل وتشغيله بوضع العقل أمام مشكلات حتى ولو وهمية من خلال ألعاب الذكاء الإلكترونية التي تعطيك بعض المشاكل وتبدأ في حلها، فعقولنا مثل الآلة التي إذا تركت صدأت، فلنعمل على أن نزيل الصدأ الموجود على عقولنا حتى تستطيع أن ترجع إلى طبيعتها.
من أدوات المفكر التي لا بد من امتلاكها هي فن الفك والتركيب للقضايا. من خلال تعقيدات الحياة أصبحت القضايا متشابكة ومتداخلة بشكل كبير، فيحدث عند الشخص العادي خلط بين الأشياء الصحيحة والخاطئة، فلا بد للمفكر من امتلاك مهارة الفن والتركيب والتحليل من خلال القراءة ومقابلة العلماء المتخصصين في التحليل السياسي، كما لا بد من إعمال عقله في القضايا بمحاولة قراءتها من وجهات نظر متعددة ومختلفة، وهذا لا يأتى إلا من خلال تقمص العديد من الأدوار باستخدام نموذج إدوارد دي بوند للتفكير الاستراتيجي -المعروف بقبعات التفكير الست- وغيرها من أدوات التفكير، كنموذج جاين ليدكا ونموذج أوشاناسي، ويتدرب عليها حتى تتطور لديه مهارات التفكير الاستراتيجي.
المفكر الحقيقي هو الذي يفكر في حل المشاكل دون قيد أو شرط، سواء أكان منتمياً لحزب أم لجماعة أم لقبيلة أم لجهة أم لمؤسسة، فيركز على الأفكار أكثر من تركيزه على الأشخاص ليتمكن من أن يبرع في تصوراته وحلوله فلا يقيدها بفكر مؤسسة وحدودها وتصوراتها بغض النظر عن انتمائه لهذه المؤسسة أو لذلك الحزب، تاركاً لعقله المجال ليفكر في أمور خارج إطار المألوف، ليخرج بإبداعات من مكنون الفضاء الكبير لا الفضاء الصغير الذي هو ينتمي إليه. وختاماً من ابتغى أن يصبح مفكراً عليه أن يبذل جهداً متواصلاً في بناء عقلية متحررة من القيود والأغلال التي سيطرت على عقولنا.