طائفية العسكر... السوس الذي نخر الدولة السورية وأسقطها
مثله مثل بقية ضباط اللجنة العسكرية السرّية التي تشكّلت في عهد الوحدة، جاء الرئيس، حافظ الأسد، من الريف السوري، مستنداً إلى قاعدة علوية عريضة في المؤسسة العسكرية، برفقة أخ كُتب له أن يتسلّم القوات الخاصة، والتي تحولّت لاحقاً إلى "سرايا الدفاع"، حيث لعبت دوراً هاماً في حماية النظام ومساندة مخططاته وتنحية كلّ خصومه.
كانت القاعدة العسكرية العلوية ضمن الجيش، قد بدأت تكبر تدريجياً، منذ أن قامت فرنسا المحتلة بإحداث الفيلق السوري (القوات الخاصة في المشرق) عام 1920، بالاعتماد على الأقليات الطائفية والإثنية، من بينهم العلويون، حيث "تجمع وثائق تلك المرحلة أنّ قرابة نصف هذه القوات كان من العلويين (في سورية) والمسيحيين (في لبنان)، مع نسبة لافتة من الطائفة الإسماعيلية قياساً لتعدادها، على عكس الانخفاض الملحوظ في نسبة الطائفة الدرزية.." وفقاً لما ذهب إليه محمد علاء الدين في مقال له في صحيفة العربي الجديد.
ومع توالي الأيام والسنوات ازدادت أعداد العلويين المنخرطين في المؤسسة العسكرية، حيث كتب الضابط، محمد معروف، في مذكراته، أنه في عام 1943 كان جميع أفراد السرية التي تخدم تحت إمرته في مدينة البوكمال شرق البلاد من العلويين، وقد تولى اختيارهم وتدريبهم بنفسه. وكذلك كان الحال حينما عُين آمراً على سرية في مدينة تل كلخ، حيث كانت الغالبية العظمى منهم أيضا (وفق قوله)، وذلك بناء على ما ورد في كتاب "الجيش والسياسة في سورية، 1918 ـ 2000" للدكتور بشير زين العابدين.
بذلك، نجحت سياسة المستعمر الفرنسي في تطييف الجيش السوري و"تلغيمه" في نفس الوقت، وهو ما دعا حاكم دولة العلويين الفرنسي آنذاك، دي لاروشيه، للقول، بل الجزم: "سيكون العلويون مفيدين جداً بالنسبة لنا، ولا يمكننا الاستغناء عنهم" (الجيش والسياسة في سورية).
نجحت سياسة المستعمر الفرنسي في تطييف الجيش السوري و"تلغيمه"
كبر تعداد هذا الجيش "المختلط" حتى "بلغ حين تسليمه للحكومة السورية برئاسة شكري القوتلي ما يُقارب ثلاثين ألف مقاتل" وفقاً لفضل الله أبو منصور، ومع هذا الازدياد ازدادت نسبة العلويين المنخرطين فيه، فعندما اغتيل عدنان المالكي سنة 1955، تكشّف لرئيس الشعبة الثانية (المخابرات)، عبد الحميد السراج، أثناء التحقيق بأنّ ما يزيد عن 55% من صف ضباط الجيش، ينتمون للطائفة العلوية.
ومع استلام كلّ من صلاح جديد وحافظ الأسد إدارة شؤون الضباط ووزارة الدفاع على التوالي، بدأت عمليات تصفية وتسريح مئات الضباط من بقية المكوّنات الحزبية والطائفية السورية الأخرى، وذلك خلافا لما أورده الكاتب باترك سيل، بقوله: "كان الأسد باعتباره وزيراً للدفاع، قد وافق على طرد حوالي أربعمائة ضابط كأضخم حملة تطهير عرفها الجيش السوري في تاريخه، فقد كان هو وجديد مصمّمين على وضع حد نهائي للطائفية دفعة واحدة، فإذا أضيف هؤلاء لآلاف المسرحين من ناصريين وانفصاليين الذين صرفوا من الخدمة أو اعتقلوا منذ عام 1963 فسيتضح أن سورية قد انزلقت في حرب حزيران بدون هيئة ضباط أو على الأقل بهيئة مستنزفة استنزافاً عظيماً".
وهكذا لتستمر علونة المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية بعد استلام الأسد السلطة عام 1970 على أوسع نطاق، كانت الترفيعات والترقيات فيها ولا تزال استناداً لمقدار الولاء والانتماء للعشيرة الحاكمة لا الكفاءة، وهو ما أوضحه "حنا بطاطو" بالقول إنّ "العلويين قد شكلوا ما لا يقل عن 61.3 في المئة من الضباط الـ (31) الذين انتقتهم يد الأسد، بين 1970 و1997؛ ليحتلوا المواقع الرئيسة في القوات المسلحة والتشكيلات العسكرية النخبوية وأجهزة الأمن والاستخبارات".
ولخلق توازن شكلي مع الجيش والأمن الذي يسيطر عليه العلويون، يقول بطاطو "كان الأسد يختار شخصيًا أعضاء القيادة القطرية، بانتخابات شكلية، لزيادة نسبة السنّة في قيادات البعث"، ومثل ذلك في "سلك ضباط الشرطة أيضاً، باعتباره لا يشكل خطورة من الناحية القتالية" على حد قول عبدالناصر العايد، والذي يضيف أنه وفقاً للدورة 29، التي تخرجت عام 2001 والمكوّنة من 147 ضابطاً، مثلاً كان عدد السنة 94 أي نحو 64 في المئة، بينما العلويين 32 أي 23 في المئة، و21 من بقية الطوائف".
ويبقى اللغز المحيّر هنا، في الصعود الصاروخي للأسد في الحياة العسكرية والسياسية، إذ وعلى الرغم من فصله من الخدمة العسكرية، فقد تمت إعادته بعد انقلاب 1963، وهو ما جعل الأسد والقول لبطاطو "يتمرّس في المؤامرات السياسية أكثر بكثير من الخدمة العسكرية... وأنه عند اندلاع حرب النكسة عام 1967 كان ما يزال الأسد غُرّاً عسكريًا، ولم يكن يملك المؤهلات الكافية؛ ليكون الرأس المدبرة للقوات المسلحة".
كانت الترفيعات والترقيات في المؤسسة العسكرية، ولا تزال استناداً لمقدار الولاء والانتماء للعشيرة الحاكمة، لا الكفاءة
ليس ذلك فحسب وإنما جرى إعفاؤه من منصبه، وزيراً للدفاع، بناءً على قرار "المؤتمر القومي الاستثنائي العاشر لحزب البعث" الذي عُقد بتاريخ 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 1970، فضلاً عن تسبّبه في هزيمة حزيران وما نتج عنها من سقوط الجولان، بسبب قيامه بتسريح مئات كبار الضباط، قبل نشوب الحرب، واستبدالهم بأشخاص مدنيين لا خبرة عسكرية لديهم.
هذا الأمر يثير في الحقيقة عدداً كبيراً من الأسئلة، حيال الدور المتعاظم الذي قام به الأسد، فهل كان نتيجة طبيعية لتحكّم أبناء العشيرة العلوية بجميع مفاصل المؤسسة العسكرية؟ أم بسبب شخصية الأسد وما تمتع به من ذكاء وحكمة ودهاء؟ أم أنّها عبارة عن توافقات خارجية؟ تلك التي تحدّث عنها (كما ذكرنا أعلاه) حاكم دولة العلويين الفرنسي آنذاك، "دي لاروشيه"، خصوصاً أنه وخلافاً لجميع زملائه أخذ يتنقّل بسرعة هائلة بين رتبة عسكرية وأخرى، متجاوزاً بذلك كلّ الحسابات.
كانت بدايات الأسد بانتسابه إلى الكلية الحربية في حمص عام 1952، ليتخرج منها بعد ثلاث سنوات في عام 1955 برتبة ملازم طيار، وبعد انقلاب 1963 تم استدعاؤه من الخدمة المدنية حيث كان مفصولا من الجيش، ليتم ترفيعه إلى رتبة مقدّم مع تعيينه قائداً لمطار الضمير العسكري، ثم سرعان ما تمّ ترفيعه إلى رتبة لواء وتسميته قائداً للقوى الجوية عام 1964. ولم يمضِ على هذا التعيين سنتين حتى سُمّي وزيراً للدفاع، كان ذلك بعد انقلاب 1966، والذي ما لبث (وفقاً لبطاطو) "أن حوّل هذه الوزارة مع مديرية الطيران المدني إلى إقطاعية مغلقة، كما وفّر حماية لضباط الجيش المتهمين بالإهمال في هزيمة 1967".
بذلك "نجح الأسد في فرض سيطرته على معظم القوات المسلحة"، وبالمقابل "أحكمَ جديد قبضته على جهاز الحزب المدني، ما خلق "ازدواجية في السلطة تمت السيطرة عليها من قبل جماعات علوية"، وفقاً لما أورده المستشرق الهولندي، نيقولاس فان دام، لتستمر سورية كدولة أخيرة في الشرق الأوسط ما زالت تحكمها أقلية طائفية، بيدها 80% من الوظائف، وفقاً لموقع "أوريان 21"، ولتستمر بذلك مشكلة الشعب السوري، وليستمر معها سقوط الأوطان!