طرائف الجماعات البعثية والناصرية والشيوعية
أساطير بعثية (5)
استهل أبو سعيد كلامه، في اتصال البارحة، بأن نظام الأسد "الطائفي" هو السبب في تشويه ضمائر الناس ونفوسهم. وهذا ما حصل مع جماعة أبو النوري التي تحدثنا عنها سابقاً، إنهم حملة شهادات جامعية عليا، يعني نخبة مثقفة، ويجدر بهم أن يحافظوا على كرامتهم، ولا ينزلقوا لمثل هذا النفاق والانبطاح في سبيل تحقيق مكاسب شخصية.
- كلامك صحيح، أخي أبو سعيد، عدا قولك إن نظام الأسد "طائفي". ولكيلا نخوض طويلاً في هذا البحث، الذي لا يناسب طبيعة مدونة "إمتاع ومؤانسة"، أقول إنه نظام سلطوي، ديكتاتوري، يستهين بأرواح السوريين، ويقمع حرياتهم، ولكنه يعتمد في ذلك على أشخاص من مختلف الطوائف، والمبدأ الأساسي عنده هو الولاء للنظام، ولحافظ الأسد شخصياً، والدليل على ذلك أن الرفاق من جماعة أبو النوري وصلوا إلى مبتغاهم بعدما فهموا لعبة الولاء، مع أنهم ليسوا من طائفة حافظ الأسد.
- طيب. وماذا حصل بعد ذلك؟
- ما حصل هو أن أربعة منهم أصبحوا مديري شركات، أو دوائر حكومية في إدلب، والخامس، أبو النوري الذي غلب اسمه على المجموعة، بدأ يصعد من خلال الحزب، فذات يوم، عينوه أميناً للشعبة، ثم أصبح عضواً في الفرع، ثم سافر إلى دمشق، وشغل فيها عدة مناصب حزبية، إلى أن استقر في أحد مكاتب القيادة القطرية. وخلال وجوده هناك، أصبح داعماً أساسياً لجماعته في إدلب.
- جميل.
- وهنا أحب أن أسترسل قليلاً، فأقول لك إن العادة جرت في سورية، منذ قديم الزمان، على تسمية الأحزاب والهيئات السياسية بأسماء الأشخاص الذين أسسوها. مثلاً: الانقلابيون الذين أطاحوا بالرئيس محمد أمين الحافظ، يوم 23 شباط/ فبراير 1966، عرفوا باسم "جماعة صلاح جديد"، وحينما انشق المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري عن الحزب، صارت الجماعة القديمة تعرف باسم جماعة خالد بكداش، والجماعة الجديدة صارت تعرف باسم "جماعة رياض الترك".. وربما كان مسلياً أن نعدد اليوم أسماء الجماعات التي اشتهرت في سورية: جماعة أكرم الحوراني، جماعة مراد يوسف، جماعة صفوان قدسي، جماعة رفعت الأسد، جماعة يوسف الفيصل، جماعة فايز إسماعيل، جماعة غازي كنعان، جماعة بعث العراق، جماعة يوسف نمر، جماعة كريم الشيباني.. وجرياً وراء حبي الاسترسال، أنا أعرف أكثر من طرفة لها علاقة بهذه الجماعات.
قال أبو سعيد: يبدو أن الجو بدأ يحلو. هات أسمعني.
- عَيَّنَ النظام البعثي لسجن صيدنايا السياسي ضابطاً مطعماً على ديك هندي، فقد كان يمشي في ساحة السجن، وينتفش، ويتبختر، ويوزع نظراته على معاونيه، وكأنه حرر، للتو، خمسين سنتمتراً مربعاً من الأراضي العربية المحتلة! وأما المساجين، فكان يتعامل معهم باستعلاء، وكان أكثر ما يغيظه فيهم أنهم مثقفون، ويبدو أن ثقافتهم كانت تشكل له عقد نقص، فكان يجمعهم، بين الحين والآخر، ويخطب فيهم قائلاً إن الثقافة لا تنفع إلا إذا كانت ثقافة نافعة.. أنتم أضعتم زهرة شبابكم في قراءة كتب سخيفة، ولو كان عندكم عقل، أكبر من عقل الدبانة، لنسيتم كل ما حفظتموه، واتجهتم لقراءة المنطلقات النظرية لحزب البعث العربي الاشتراكي العظيم، وخطابات القائد المناضل باني سورية الحديثة حافظ الأسد.
وقد وقع هذا الرجل الديكيّ في شر أعماله مرتين، الأولى أنه جمع المساجين في الساحة، وقال لهم: بدي أعد للثلاثة، والشخص الذي اسمه "مهدي عامل" يأتي إلى هنا!
ارتسمت ابتسامات على وجوه المساجين، لأنه لا يوجد سجين بهذا الاسم، ومعلوم أن مهدي عامل مفكر لبناني ماركسي، (اسمه الأصلي حسن حمدان)، اغتيل في بيروت في 18 مايو/أيار 1987، وأما كيف وقع مدير السجن في الالتباس، فيعود إلى رسالة بعث بها سجين حمصي لأهله، طلب منهم أن يرسلوا له كنزة صوفية، وأكلة كبب مقلية مما تصنع والدته (الحَنُوني)، وبدلات داخلية، وفي نهاية الرسالة كتب: وأريد كتاباً لمهدي عامل! وقد وقعت الرسالة في يد مدير السجن، فجاء يحقق معه، وفي ظنه أنه عثر على كنز أمني ثمين.
الموقف الثاني: مدير السجن جمع المساجين في الساحة، وقال لهم:
- جماعة بعث العراق قفوا هنا، جماعة رياض الترك، هنا، جماعة المكتب السياسي هنا..
وفي هذه الأثناء، اقترب منه مساعده، وهمس له بأن جماعة المكتب السياسي وجماعة رياض الترك هما جماعة واحدة! ووقتها أدار ظهره وغادر المكان، بينما انفلت المساجين بالضحك.
ومن أكثر هذه الجماعات ظرفاً وفكاهة، جماعة صفوان قدسي، (حزب الاتحاد الاشتراكي)، وقد عرف "قدسي" بأنه الوحيد بين الأمناء العامين لأحزاب الجبهة، ببراعته الخطابية، وتمكنه من اللغة العربية، وحينما كان يأتي دوره لإلقاء خطابته، كان جو القاعة يزدهي، ويتوقع الحاضرون كمية كبيرة من النفاق لحافظ الأسد، فالرجل، مع أنه ناصري، يأتي بسيرة جمال عبد الناصر مرة في كل خطاب، ويذكر حافظ الأسد عشرين مرة! وقد عُرف عنه أنه ضاق ذرعاً بالاستفتاء الشكلي الذي كان يُجرى مرة كل سبع سنوات، لتجديد الفترة الرئاسية لحافظ الأسد، فدعا، بكل صراحة وشفافية، إلى انتخاب حافظ مرة واحدة وإلى الأبد، وهناك رجل، اسمه كريم الشيباني، أسس حزباً في وقت متأخر، وأطلق عليه الحزب "الأسدي"، على غرار الأحزاب "الناصرية".
قال أبو سعيد: ذاكرتك، أبو مرداس، رهيبة.
- هذه أحداث عشناها، وتكررت أمامنا، فحفظناها غيباً. ولكيلا نبتعد كثيراً عن جماعة أبو النوري، أذكر أن هذه الجماعة تبهدلت، فجأة، ودون سابق إنذار.. وأعضاء الجماعة الأربعة، فوجئوا، ذات يوم، بكف أيديهم عن المناصب التي كانوا يشغلونها، وسُحبت منهم السيارات الحكومية التي كانوا يركبونها ويذهبون فيها إلى المصايف، وبعد أيام قليلة، تم استدعاؤهم إلى أحد فروع الأمن، وهناك ضُرِبوا، وتلقوا السباب، دون أن يفهموا لهذه النكسات المتتالية سبباً، وقد تجرأ أحدهم، وهو أبو مسطو، وطالب بمقابلة رئيس الفرع، فكان له ذلك، وعندما التقوا برئيس الفرع، زجرهم، وهزأهم، وأفهمهم، بطريقة غير مباشرة، أن كبيرهم، أبو النوري، الذي كان يسيد ويميد في دمشق، ارتكب غلطاً جسيماً، إذ تطاول على رجل أكبر منه في السلطة، فجردوه من مناصبه، وهم، أعني جماعته، تبهدلوا بسببه.