طوفان الأقصى وسؤال القيم
سؤال القيم من الأسئلة الكبرى التي طرحتها أحداث غزّة بعد عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حركة حماس، في السابع من أكتوبر وما بعدها.
أسباب السؤال تتمثّل في ردود فعل الدول والنخب السياسية والفكرية الغربية حول مجمل الأحداث، وخاصة فيما مسّ المدنيين في غزّة من قتل ورعب وتهجير، إضافة إلى ما تعرّضت له المؤسسات المدنية من مستشفيات ومساجد وكنائس ومدارس ودور ثقافة ومكتبات وآثار ومنازل.. من اقتحامات وتدمير منظّم ومقصود. هذه الردود التي اتسمت في الأغلب بالنظر إلى الأحداث بعين واحدة والكيل بمكيالين وتحليل الوقائع بعيدًا عن سياقاتها وأسبابها العميقة والتنكّر لأبسط الحقوق في المحافظة على أرواح المدنيين زمن الحرب، والوقوف مع إسرائيل في حقها في الدفاع عن النفس وتبرير كلّ ما قامت به من قتل وتدمير يدخل في خانة جرائم الحرب والإبادة التي تجب محاكمة من قام بها.
لقد كانت المواقف الغربية بعيدة كلّ البعد عن كلّ ما نظَّرت له هذه الدول والنخب من شعارات حول الحرية والقيم الإنسانية والقانون الدولي، وقد وصل الأمر إلى حدّ منع المظاهرات المساندة للفلسطينيين وممارسة الرقابة المشدّدة على المنشورات الداعمة للفلسطينيين في وسائل التواصل الاجتماعي والفصل من العمل وغيرها.
أبرز هذه المواقف تمثلت بمواقف دول مثل أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، وخاصة مواقف نخبها من السياسيين والمحلّلين والإعلاميين الغربيين الذين كان همهم الوحيد إدانة حماس ونعتها بالإرهاب، والتأكيد على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بكلّ الوسائل، وبقطع النظر عن النتائج. يضاف إلى ذلك مواقف بعض المفكرين ذوي التأثير والحضور العالمي، وأبرزهم الفيلسوف الالماني يورغن هابرماس في البيان الذي أصدره مع مفكرين آخرين، والذي كان في نفس السياق.
فشل الغرب في تجسيد قيم حقوق الإنسان والعدالة على أرض الواقع وخان الأمانة باعتباره يقود البشرية في هذه المرحلة، وهو ما يفقده المصداقية لدى النخب والشعوب
كلّ ذلك كان وراء طرح السؤال، من قبل الكثيرين في المجال العربي الإسلامي، عن حقيقة القيم الإنسانية التي دعت إليها الحداثة، حيث شعر البعض بنوع من الشك لأنّه دافع لعقود عن هذه القيم، وراح آخرون يتحدثون عن أكذوبة القيم وهم يربطون بين المواقف الغربية والقيم الإنسانية المعروفة والواردة في أدبيات حقوق الإنسان الدولية. بعض هذه المواقف وصل إلى حدّ القول بعدم الحاجة إلى هذه القيم في المجال العربي الإسلامي ورفض مقولات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، رغم أنّها كانت عنوانًا كبيرًا لثورات الربيع العربي.
لا شك أنّ هذه الردود هي ردود طبيعية وضرورية على المواقف الغربية المعيبة التي تنكرت لما تدعو إليه وتعاقب عليه أحيانا بعض الشعوب لعدم الالتزام بها. فالسؤال إذن مشروع وضروري، لكن للإجابة عليه من المهم التفكير بعيدًا عن الانفعال. في هذا الإطار، من المهم جدًا الوعي بأمرين على الأقل. أولا، ضرورة التمييز بين القيم النظرية باعتبارها مشتركا إنسانيا، حيث احترامها ضامن لكرامة الإنسان في مختلف المستويات، وبين تَمَثُّل هذه القيم التي من الممكن أن تخفق فيه مجموعة (حالة المواقف الغربية تجاه الحرب في غزّة، وإن كان الأمر مألوفا من بعض الدول الغربية في أحداث أخرى في أماكن اخرى كالعراق وأفغانستان وغيرها). هنا فشل الغرب في تجسيد هذه القيم على أرض الواقع وخان الأمانة باعتباره يقود البشرية في هذه المرحلة، وهو ما يفقده المصداقية لدى النخب والشعوب الأخرى، بما يجعلها تشكك في جدارته بقيادة العالم.
وثانياً، الوعي بأنّ القيم الإنسانية ليست مُنتَجا غربيًا بحتًا، بل هي نتيجة تراكم ساهمت فيه كلّ الحضارات عبر الزمن، وبالتالي فإنّ للجميع حقا فيها، وميزة كلّ فرد ومجموعة هي في القدرة على تمثلها على الوجه الأفضل. وإذا لم تعد مجموعة ما غير قادرة على الدفاع عن هذه القيم والتمثل الجيّد لها، فإنّ على بقية المجموعات البشرية أن تتمسك بهذه القيم وتعمل على تمثلها وإدانة كلّ تنكر لها.
يبدو لي أنّ ما شاهدناه في جولة تبادل الأسرى من اختلاف في المعاملة بين إسرائيل وحماس يشير إلى وعي بهذا الأمر من جهة حماس. فصور التوديع بين عناصر القسّام، والرسالة التي كتبتها المحتجزة الإسرائيلية للقسّام وعودة الكلبة "بيلا" بسلام كما علّق البعض... هي إشارات مهمة تؤكد أهمية التمسّك بالقيم الإنسانية لأنّها عنوان إنسانية الانسان، رغم أنّ الوضع في غزّة فاق حدود الخيال بما يعمّق الرغبة في الانتقام والمعاملة بالمثل.