عدم التدخّل في شؤون العراق هو المنطلق
لا يزال مبدأ السيادة الإقليمية الذي أقرته اتفاقية سلام ويستفاليا عام 1648 يشكل أساس التنظيم الدولي المعاصر.
وينطوي مبدأ السيادة الإقليمية في جوهره على مبدأ عدم التدخل الدولي في الشؤون الداخلية للدول (مبدأ عدم التدخل)، والذي يكرّس بدوره سيادة الدولة على شؤونها الداخلية والخارجية في آن معاً.
والجدير ذكره أنّ فكرة عدم التدخل في أول ظهورها كانت عبارة عن مبدأ أعلنته فرنسا إبان نجاح ثورتها، وتم إدراجه في دستورها عام 1793، ومن ثم انتشر في باقي دول القارة الأوروبية. ورغم قدم تلك الفكرة، إلا أنها لم تصبح قاعدة قانونية ملزمة دولياً سوى في أربعينيات القرن الماضي، وذلك عندما تبنت دول أميركا اللاتينية في مؤتمر مونتيفيديو عام 1933 اتفاقية خاصة بحقوق وواجبات الدول.
ولا يزال مبدأ عدم التدخل يمثل حجر الزاوية في العلاقات الدولية المعاصرة، إلا أنّ الممارسة تبيّن أنّ الكثير من الدول لا تتقيّد في سياستها الخارجية بهذا المبدأ؛ فهي تبرّر التدخل إذا اتفق مع مصالحها، وتعارضه إذا لم يكن لها مصلحة فيه.
ويلاحظ في عالم اليوم اتساع رقعة ومدى دائرة التدخل الدولي، سواء جاء هذا التدخل من قبل الدول الكبرى أو غيرها، هذا ناهيك عن تعدّد مبرراته (مكافحة الإرهاب، إرساء الديمقراطية، البيئة، حقوق الإنسان، حماية المعالم الأثرية...).
وإن كانت اتفاقية سلام ويستفاليا لم تمنع حصول حالة التدخل الدولي، سوى لبضعة عقود من الزمن، وإن كان هذا التدخل قد جرى بطريقة مستترة، إلا أنه لا يعد من قبيل المبالغة القول إننا نعيش في عالم ما قبل الويستفالي.
لا يزال مبدأ عدم التدخل يمثل حجر الزاوية في العلاقات الدولية المعاصرة، إلا أنّ الممارسة تبيّن أنّ الكثير من الدول لا تتقيّد في سياستها الخارجية بهذا المبدأ، فهي تبرّر التدخل إذا اتفق مع مصالحها، وتعارضه إذا لم يكن لها مصلحة فيه
ويبدو الأمر على الساحة العراقية أكثر حدة، إذ شهدت هذه الساحة تدخلا دوليا من قبل بعض الدول الكبرى بمعزل عن مجلس الأمن تارة (الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها عام 2003)، ومن خلال هذا المجلس تارة أخرى، كما تشهد تدخلا من قبل بعض دول الجوار على الدوام.
وقد تنوعت أساليب التدخل الدولي في الساحة العراقية، من استخدام القوة العسكرية، كما هو حال الضربات الصاروخية الإيرانية والتركية على الحدود، وفي العمق أيضا (ناهيك عن التوغل أحيانا والتهديد به في أحيان أخرى)، إلى استخدام وسائل الضغط السياسي والاقتصادي والدبلوماسي... وعند كل تدخل دولي تكرّر الحكومة العراقية احتجاجها ضد انتهاك سيادتها، وتشدّد على رفض استخدام أراضيها كممر ومنطلق لتهديد أمن دول الجوار.
العجب كلّ العجب من هذا الخطاب الدبلوماسي الذي يوحي من جهة بأن العراق بلد منتقص السيادة، ومن جهة ثانية يستبطن النية بالتدخل في شؤون تلك الدول التي تنتهك سيادته.
إن على الدبلوماسية العراقية أن تنطلق في خطابها من مسلّمة أساسية تتمثل في عدم تدخل الآخرين في شؤون العراق الداخلية والخارجية، لا من خطابات لا أساس لها في العلاقات الدولية توحي بأنّ العراق عار من السيادة، وفي نيته التدخل في شؤون الآخرين.