على من تقرأ بيانك يا ماركس؟
تقول الجملة الأولى من كتاب "البيان الشيوعي" الذي صدرت نسخته الأولى في لندن في 21 فبراير/شباط 1848: شبحٌ يجول في أوروبا، هو شبح الشيوعيّة. فهل يعود هذا الشبح إلى أوروبا من جديد؟
يعتقد مدير الأبحاث في المركز الوطني للبحوث العلمية والسياسة الأوروبية في باريس، المفكر وعالم الاقتصاد، فريديريك لوردون، في كتابه "العبيد الراغبون في رأس المال"، أنّ الشيوعيّة قادرة على إنقاذ العالم والقضاء على أشكال التفاوت، أو أن تحدّ منه على الأقلّ. ويزعم أنّنا لن نستطيع إنقاذ الأرض، ومن عليها، إذا تواصل هذا النمط من الإنتاج الرأسماليّ، ومن ثَمّ لا بدّ من العمل على ترغيب الناس في الشيوعيّة (أو قُل المشاعيّة). ولا بد هنا من العودة إلى كارل ماركس وفلسفته التي سعى من خلالها، ليس لتفسير العالم فحسب، بل إلى تغييره أيضاً.
وفي السعي لردّ الاعتبار إلى مفهومات الشيوعيّة الأساسيّة، التي أصابها التحجّر والجمود (بمعنى أنها أضحت عقيدة، وفقدت أكثر مناهجها قيمة الديالكتيك، فأمست كما نقول في الشمال السوري "حطب في قطرميز")، أرى كحل لهذه المسألة بأن تُفسح الأحزاب الشيوعيّة المجال في صفوفها لجيلٍ شاب مؤمن بفكر مناضل، وذلك لردّ الاعتبار لنضال الشيوعيين من خلال ما عمل عليه كارل ماركس ورفيقه فريدرك أنجلز في "الأيديولوجيا الألمانية"، حيث كتبا: "ليست الشيوعيّة بالنسبة إلينا وضعاً ينبغي بناؤه، ومثلاً أعلى ينبغي أن ينحو الواقعُ باتجاهه. نعني بالشيوعيّة الحركة الواقعية التي تتجاوز الظروف الموجودة".
تأمّل صورة ملوّنة ملتقطة حديثاً لحشد من الأمناء العامين وأعضاء من المكاتب السياسيّة واللّجان المركزيّة لاجتماع مشترك بين الأحزاب الشيوعيّة العربيّة والعالميّة، عُقد في اليونان في الأمس القريب، ستُلاحظ مُباشرة أنّ الحشد برمته بلغ سنّ الشيخوخة (وقد رفعت منظمة الصّحة العالميّة سنّ الشّباب إلى 65 عاماً)، وأنّ أكثر أمناء الأحزاب الشيوعيّة العربيّة والعالميّة فوق سنّ الشباب هذا، وسيلفت نظرك أيضاً غياب النساء عن قيادة هذه الأحزاب، وتسأل عن سرّ هذا الغياب المُتعمّد والمستمر للنساء والشباب في قيادة هذه الأحزاب من مئة عام؟ هل عندك تفسير، ما السر في ذلك؟ يخطر في بالك الاقتراح التالي لحل هذا الإشكال التاريخي المُزمن: لو تُدرج فقرة في النظام الداخليّ للأحزاب الشيوعيّة العربيّة والعالميّة، تحدّد عمر المرشّح لعضوية اللّجنة المركزيّة، التي يُنتخب منها المكتب السياسيّ، ومن ثمَّ الأمين العام، وألا يزيد عمر عضو اللجنة المركزيّة على ستين عاماً مهما كانت الأسباب، وتسقط عضويته في اللّجنة المركزيّة عند تجاوزه سنّ الستين، وأن يكون نصف أعضاء اللجنة المركزية من النساء، مهما كان عدد النساء في الحزب الشيوعي.
ثمّة غياب مُتعمّد ومستمر للنساء والشباب من قيادة الأحزاب الشيوعية
على من تقرأ بيانك يا رفيق؟ ألا تعتقدُ بأنّ النقد الذاتيّ بطل زيّه من زمان، وما عاد يُستعمل في الأحزاب الشيوعيّة؟ ولكنّ السؤال يبقى حاضراً: هل يظلم الشيوعيون أنفسهم عندما يعترفون بأخطاء ارتكبوا الكثير منها في أثناء مسيرتهم الطويلة (ودعك من إنجازاتهم التي تظهر في عناوين صحفهم)؟ وهل فعلاً الأحزاب الشيوعيّة تحارب فكرة الشيوعيّة بين صفوف منتسبيها، بمعنى تطرد من صفوفها من لا يوافق مواقفها السياسيّة، ولو كان شيوعيّاً مزمناً؟
نعم، أعتقد أن الأمر كذلك، وهذا أحد أسباب وهنها وتشرذمها. وهنا أتذكّر مقالين مهمين كتبهما المفكر العراقي هادي العلوي، ورفضت صحف الأحزاب الشيوعيّة نشرهما في حينه، فضمنهما كتابه "المرئي واللّامرئي في الأدب والسياسة"، وجاء الأوّل تحت عنوان "شيوعيّة الأفنديّة"، والثاني بعنوان "الفساد ملّة واحدة - شيوعيون يُحاربون الشيوعيّة وإسلاميون يُحاربون الإسلام".
الشائع في بيئة الأحزاب الشيوعيّة أنّ الرفيق الشيوعيّ يمتلك وجداناً حيّاً وبُعداً معرفيّاً وأخلاقياً يحميه من الانزلاق نحو المواقف السياسية الفجّة. بمعنى يمتلك قلباً شيوعيّاً لا فكراً شيوعيّاً فقط، وبذلك لا تحكمه المقولات السياسيّة، ولا نهج جريدة لسان حال الحزب الشيوعيّ الذي يعمل في صفوفه، بل يحكمه الوجدان الذي يدفعه إلى نصرة الخلق المتعبين من عمال وفلاحين وصغار كسبة وأهل سبيل. هؤلاء وغيرهم هم أصحاب المصلحة الحقيقية في الشيوعيّة.
من المفترض من كلّ شيوعيّ أن يكون مع الخلق ضد من يسعى لإذلالهم في معيشتهم
ولينظر كلّ شيوعيّ منتسب إلى هذه الأحزاب وما زال في صفوفها إلى ما آلت إليه أحوال الخلق في هذه السنوات العجاف، والذي من المفترض من كلّ شيوعيّ أن يكون مع الخلق ضد من يسعى لإذلالهم في معيشتهم.
أنا مع العلامة الجليل، هادي العلوي، بأنّ "الفلسفة الماركسيّة هي غير الشيوعيّة، وقد يكون المرء ماركسيّاً ولا يكون شيوعيّاً" وهذه الفكرة لا تهضم حقّ المرء في أن يكون من أهل الشيوعيّة أو أهل الماركسيّة، لأنّ مفهوم الشيوعيّة بترجمتها العربيّة القديمة "المشاعيّة" والمشاع لا يُملّك، هي أعتق من الماركسيّة الحديثة بكثير. وأهل اليسار في العموم، وعلى اختلاف مشاربهم يلتقون في الوقوف في وجه الحاكم المستبد ويقفون في صفّ الجماهير الغفيرة (نظرياً على الأقل).
وهنا أتساءل عن الأسباب الحقيقية لتراجع دور الأحزاب الشيوعيّة العالميّة بمختلف فصائلها وتباين مناهجها، ولعل الإجابة تكمن في تقوقعها على ذاتها كما يفعل القنفذ، وذلك لحماية نفسها من فقدان دورها في هذا العالم، فكان أن فقدته فعلاً، وانفضّ الخلق من حولها.
ولاحول ولا قوة إلا بالله.