علي شريعتي بين الدين والثورة
فكر علي شريعتي بين الثورية والتغيير
إنّ المتأمل في الفكر السياسي لعلي شريعتي يجد أنّه مبنيّ على ركيزتين أساسيتين: الأولى هي الثورية، والثانية هي التغيير. فدول العالم الثالث في رأيه تحتاج إلى ثورتين: الأولى عبارة عن ثورة وطنية تُنهي جميع أشكال الهيمنة الإمبريالية والسياسية، والثانية ثورة اجتماعية تُنهي جميع أشكال الاستغلال. وبذلك يعتبره البعض مؤسّس الاشتراكية الإسلامية.
لقد كان علي شريعتي ذلك المثقف المنفتح على مختلف التيارات الإيديولوجية، مستقطبًا حتى العلمانيين والليبيراليين والشيوعيين، وكان له تأثير كبير في الساحة السُّنية حتى. كان مفكرًا عابرًا للحدود وللمذاهب، وكان لدراسته في فرنسا تأثير كبير في فكره، فنجد في أعماله مزيجًا من أفكار سارتر وماسينيون، إذ أعجب بفكرة سارتر عن الالتزام، حيث يكون على الإنسان مسؤولية أخلاقية تجاه تغيير الواقع، فسارتر كان يؤمن بأنّ الإنسان صانع مصيره من خلال خياراته، وهي فكرة أثّرت في شريعتي، لكنه ربطها بالإيمان الإسلامي.
وفي ما يتعلّق بمفهوم الحرية، هي ليست فقط حرية وجودية، بل أيضًا حرية دينية وثورية، تُمكّن الإنسان من التحرّر من الظلم والاستبداد. هذا ظهر في كتابات شريعتي، حيث دعا إلى التزام ديني وثوري يسعى لتحرير المجتمع من الظلم الاجتماعي والسياسي. بل أعاد تأويل المفاهيم الوجودية لدى سارتر، فأخذ منه مفهوم "الوجود يسبق الجوهر" وصاغه في إطارٍ إسلامي، حيث يرى أنّ الإنسان المسلم يجب أن يصنع ذاته من خلال العمل الثوري والإيمان الحقيقي. لكنه عارضه في فكرة الحرية الفردية المطلقة التي يجب أن تكون متحرّرة من أيّ نوعٍ من القيود، خصوصاً تلك الدينية في نظر سارتر، فجاء شريعتي مؤكّدًا مفهوم الحرية الفردية، ولكنه في الوقت نفسه جعل لها ضوابط تحويها، حيث اعتبر الحرية الفردية المطلقة أداةَ تخديرٍ كبرى لإغفال الحرية الاجتماعية.
علي شريعتي والاشتراكية
قد يجد البعض أنّ هناك نقاط التقاء بين فكر علي شريعتي والفكر اليساري الاشتراكي، خصوصاً في معارضة الإمبريالية ودعم حركات التحرّر ومعاداة الرأسمالية والاستغلال. ومع ذلك، وجّه شريعتي نقداً لاذعاً للاشتراكية، واعتبرها "رأسمالية حكومية" تُمارس فيها الدولة الاستغلال باسم الشعب وتحت غطاء الاشتراكية، حيث تتحوّل إلى ديكتاتورية حكومية باسم "حكومة البروليتاريا"، واستبداد فكري باسم "الحزب الواحد". كذلك انتقد تعصّب الاشتراكية العقائدي القائم على النظامين الميكانيكي والاقتصادي، الذي يركّز على تحقيق "كثرة الإنتاج" باعتبارها وسيلةً للانتقال إلى الشيوعية. ففي نظر شريعتي، هذا النهج يؤدي إلى سحق الإنسان وإعادة تشكيله كـ"شيء اجتماعي"، في إطار جهاز سياسي عنيف وشامل، ما يعيد إنتاج الاغتراب الذي انتقده ماركس في الرأسمالية، ولكن بأدوات وأشكال مختلفة.
امتدّ نقد شريعتي إلى البروليتاريا الأوروبية، حيث اعتبرها خاضعة لسلطة رأس المال
امتدّ نقد شريعتي أيضاً إلى البروليتاريا الأوروبية، حيث اعتبرها خاضعة لسلطة رأس المال، ما أدى إلى نفي الحتمية الطبقية التي طرحها ماركس. وأوضح شريعتي أنّ البرجوازية الأوروبية استطاعت تخفيف الروح الثورية لدى العمال من خلال تحسين ظروف معيشتهم ومنحهم مزايا ظاهرية تُوحي لهم بالثراء، ما أدّى إلى فقدان البروليتاريا لثورتها الداخلية التي ميّزتها في القرن التاسع عشر. وفي هذا السياق، رفض شريعتي الماركسية التقليدية التي تركّزت على الاقتصاد بنيةً تحتيةً اجتماعيةً، واعتبر أنّ الاستعمار هو البنية التحتية الحقيقية في البلدان المستعمَرة، حيث يصبح الاقتصاد مجرّد بنية فوقية تُفسّر وتُبرّر بالاستعمار. ورأى أنّ الدين ليس مجرّد "أفيون للشعوب"، كما وصفه ماركس، بل هو عنصر ثوري ومحفّز في الانتفاضات المناهضة للاستعمار، سواء في البلدان الإسلامية أو في مناطق أخرى مثل البوذيين في الهند والصين والجزائر.
وأشار شريعتي إلى أنّ ما لم يدركه ماركس، أنّ فائض الربح، الذي اعتبره ماركس ناتجاً من استغلال البروليتاريا الأوروبية، لم يكن كذلك في حقيقته، بل كان هذا الربح وليد نهب الموارد الطبيعية والاقتصادية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وليس نتيجة استغلال العمال الأوروبيين. ومن هذا المنطلق، يرى شريعتي أنّ الرأسمالية الأوروبية العملاقة لم تتكوّن نتيجة استغلال العمال المحليين بقدر ما نشأت نتيجة استعمار الشعوب ونهب ثرواتها. لذلك، اعتبر شريعتي أنّ على الفكر الاشتراكي والماركسي أن يوسّع اهتمامه ليشمل العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر بدلاً من التركيز فقط على العلاقة بين العامل ورب العمل في أوروبا، حيث تكمن القضية الإنسانية الكبرى في الطابع الإجرامي للاستعمار، الذي يتجاوز الانقسامات الطبقية. واستشهد بقول لينين إنّ البروليتاري ثوري لأنه "لا يمتلك شيئاً ليخسره"، لكنه أشار إلى أنّ الرأسمالية الحديثة استطاعت منح البروليتاريا ما يجعلها تزهد في التضحية والمجازفة من أجل الثورة.
التشيع الصفوي والتسنّن الأموي والتشيّع العلوي والتسنّن المحمدي
علي شريعتي، القادم من خلفيّةٍ شيعيّةٍ ثقافيّةٍ ودينيّةٍ، كان مفكّرًا استثنائيًا تجاوز بفكره حدود المذهبية التقليدية، وسعى لتقريب وجهات النظر بين المسلمين السُّنة والشيعة. في هذا السياق، وجّه نقدًا لاذعًا لما أسماه "التشيع الصفوي"، الذي ارتبط بالدولة الصفوية، وركّز على الطقوس الشكلية ومجالس العزاء المُبالغ فيها، وخلط بين الأسطورة والخرافة. رأى أنّ هذا النوع من التشيّع يُكرّس الجمود الفكري ويبتعد عن جوهر الإسلام، داعيًا إلى التحرّر منه واستبداله بما سماه "التشيع العلوي". هذا التشيّع الأصيل، المُستوحى من رمزية الإمام علي، كان بالنسبة إليه دعوة إلى الثورة على الظلم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ومشروعًا لا يُقصي الآخر المسلم، على عكس التشيّع التقليدي الذي رآه أداةً للانغلاق والتفرقة. لم تقتصر انتقاداته على التشيّع الصفوي فحسب، بل امتدّت أيضًا إلى "التسنّن الأموي"، الذي وصفه بأنّه أداة تبرير للحكام المستبدين على مرّ العصور. وفق رؤيته، ساهم هذا النوع من التسنّن في تكريس الطبقية والاستبداد باستخدام الدين بوصفه وسيلة لتحقيق أهداف سياسية، ما أدى إلى تشويه صورته في الوعي الجمعي.
الإسلام الذي يدعو إليه شريعتي هو إسلام تحرّري، يرفض أن يكون أداة في يد السلطة أو وسيلة لتكريس الظلم الاجتماعي
في المقابل، دعا إلى العودة إلى "التسنّن المحمدي"، الذي يجسّد القيم الأصيلة للإسلام ويتقاطع في جوهره مع التشيّع العلوي في الدعوة إلى العدالة والمساواة. من خلال هذه المقاربة، سعى لتقديم رؤية توحيدية تجمع بين التشيّع العلوي والتسنّن المحمدي، بهدف رأب الصدع بين السُّنة والشيعة. واعتبر هذا المشروع وسيلة لتوحيد الأمة في مواجهة الهيمنة الغربية والإمبريالية، داعيًا المسلمين إلى العودة إلى ذاتهم الحقيقية والإسلام منهجًا للتحرّر.
ورغم الانتقادات التي تعرّض لها من رجال الدين التقليديين، خصوصاً في إيران، تبقى رؤيته إحدى المحاولات الفكرية البارزة لتجديد الخطاب الإسلامي وإعادة الدين إلى دوره الأساسي في تحقيق العدالة الاجتماعية والحرية.
في ختام هذا المقال، تتجلّى دعوة علي شريعتي إلى "العودة إلى الذات" كأحد أعمدة فكره الثوري والتحرّري، حيث شدّد على ضرورة الرجوع إلى أصالة الإسلام باعتباره مشروعًا حضاريًا حيًا، قادرًا على مواجهة تحديات العصر. فبالنسبة إليه، الإسلام ليس مجرّد منظومة من التقاليد الجامدة أو المعارف النظرية، بل هو إيديولوجيا تنويرية نابضة بالحياة، تجمع بين الإيمان الواعي والالتزام الإنساني، بحيث وجب التحرّر من الشكل التقليدي للتديّن من أجل خلق قوة دافعة للتحوّل الاجتماعي، وهذه العودة لا تقتصر على استعادة الروح الإيمانية فقط، بل تشمل أيضًا مواجهة الانغلاق الطبقي والاستبداد الذي شوّه صورة الدين عبر التاريخ. فالإسلام الذي يدعو إليه شريعتي، إسلام تحرّري، يرفض أن يكون أداة في يد السلطة أو وسيلة لتكريس الظلم الاجتماعي. ومن خلال هذا الفهم العميق، دعا إلى استلهام القيم الإسلامية الأصيلة لإعادة بناء المجتمعات على أسس إنسانية تُوازن بين الحرية الفردية والمسؤولية الجماعية بحيث تُخلق المعجزة البروميثيوسية تأتي بقبس النار الإلهية إلى الأرض.