علّة التلقين والتكديس المعرفي وأثرها على نظام التعليم بالجزائر
لقد أصبح التعليم المعاصر يتسم بالملمح التطبيقي ويتوجه إلى تحليل واقع المتعلّم ومشكلاته، أي يهدف إلى جعل المتعلّم يمتلك الكفاءة التطبيقية لتوظيف معارفه في وضعيات حقيقية تعالج واقعه ومجتمعه، كما يستهدف تحسين مستويات التفكير لدى الأفراد وتنمية قدراتهم العقلية باستثارة الخيال العلمي والإبداع والتفكير الابتكاري والنقد العلمي.
وفي عصر مجتمعات المعرفة وقع تغيير جذري في المفاهيم البيداغوجية المتعلّقة بثلاثية العملية التعليمية: المعلّم، المتعلّم، المعرفة، حيث أنّ المعلم لم يعد المصدر الوحيد والأسمى للمعلومة، في ظلّ تعدّد مصادر المعرفة والانكشافية الإعلامية التي فرضتها الثورة الاتصالية، والتي أتاحت الولوج إلى الأوعية وقواعد البيانات والمنصات العالمية، فتغيّر دور المعلم من تلقين المعارف إلى إرساء المهارات.
كما أنّ المتعلّم لم يعد متلقياً بريئاً للمعرفة، فنزعة النقد والتشكيك والاستفسار أضحت تلازم فكره، فهو يرفض ثقافة الإذعان المطلق ويبحث دوماً عن التبريرات المنطقية لما يستقبله من مفاهيم أو معلومات.
أما المعرفة، فقد تحرّرت من قيود الاحتكار، وأصبحت مُشاعة ومُتاحة، فهي تُعرض في قوالب متنوعة وجذابة وبأساليب تنافسية، كما أنّ التحدّي الأكبر لم يصبح في ندرة المعرفة، وإنّما في كيفية استثمارها وتوظيفها بفعالية في حلّ المشكلات وبناء المفاهيم وفق منهجية بيداغوجية.
أما بيئة التعلّم فقد تغيّرت عن الوضع التقليدي، فوسائل التكنولوجيا والتعليم الإلكتروني والملتيميديا والإنترنت والواقع المعزّز والتطبيقات الرقمية، عناصر أساسية في التعليم المعاصر اليوم.
لم يعد المتعلّم المصدر الوحيد والأسمى للمعلومة، في ظلّ تعدّد مصادر المعرفة والانكشافية الإعلامية التي فرضتها الثورة الاتصالية
وأمام هذه التحوّلات الثورية في بيداغوجيا التعليم، لا تزال السمة الغالبة على مناهجنا التعليمية هي طغيان الجانب النظري في تدريس العلوم، ولا يزال أسلوب تلقين وتكديس المعارف يغلب على نمطية التدريس وبناء التعلّمات.
فمناهجنا الدراسية تعاني إهمالاً واضحاً للملمح التطبيقي وللتعليم القائم على التجربة، خصوصاً في المواد العلمية والتجريبية والتقنية، التي هي علومٌ تجريبيةٌ بالأساس، كالفيزياء والعلوم الطبيعية والهندسة الميكانيكية والكهربائية والمدنية، بل إنّ العلوم الإنسانية واللغات هي الأخرى بحاجة إلى تطبيقات وتدريبات عملية، لأنها علوم سلوكية تستهدف إحداث تغييرات إيجابية في سلوك المتعلّم، وهذا ما يفسّره غياب الاستعانة بالمخابر والمعامل والورشات والوسائل التعليمية المناسبة، التي تُكسب المتعلّم حسّاً تجريبياً، وتحفّز ذهنه على البحث والإبداع والاستكشاف.
فالعملية التعليمية في مناهجنا، رغم المحاولات الإصلاحية الأخيرة، لا تزال (عملياً) قائمة على محورية دور المعلّم في إدارة الموقف التعليمي، ولا تركز على استثارة العمليات العقلية لدى المتعلّم عبر منهج بنائي تفاعلي، يساعده على التكوين الذاتي للمعارف والقدرة على حلّ المشكلات وابتكار الحلول.
ومما يُلاحظ في ذات السياق تركيز المناهج التعليمية على حشو ذهن المتعلّم بكميات هائلة من المعلومات، دون استيعابٍ أو تمكينٍ للمتعلّم من الممارسة الميدانية. فمثلاً: يدرس التلميذ خلال 12 سنة من التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي ثلاث لغات حيّة، هي: العربية والفرنسية والإنكليزية، ثم يتخرّج بشهادة البكالوريا، وهو لا يتقن لغة واحدة من الثلاث، رغم حصوله على علامات حسنة أو جيدة فيها، وهذا خلل منهجي يطبع المناهج التعليمية بصفة عامة، بسبب إهمال الملمح التطبيقي وتمحور عمليات التقويم البيداغوجي حول الامتحانات الدورية بصفة أساسية، ما جعل المتعلّم يراجع ويحفظ لأجل الامتحانات ونيل العلامات فقط.
لا يزال أسلوب تلقين وتكديس المعارف يغلب على نمطية التدريس وبناء التعلّمات
كما تمثّل نوعية المعارف المنتقاة في عملية بناء المناهج عاملاً أساسياً لتكريس النمط التلقيني، إضافة إلى عدم فاعلية طرق التدريس بسبب غياب التكوين البيداغوجي وعدم كفاية البيئة التعليمية.
ومن العوائق التعليمية المطروحة بقوة، خصوصاً في التعليم الابتدائي، انعدام التناسق بين القدرات العقلية للتلميذ، ومستوى المعارف والمفاهيم التي يتلقاها في مختلف المواد والوحدات التعليمية، خصوصاً بعد إصلاحات الجيل الثاني سنة 2016، التي لم تراعِ بشكل متوازن الحاجات النمائية للمتعلّم في الطور الابتدائي، فأثقلت كاهله وفكره بتكديس المعلومات التي تفوق مستواه الذهني وقدراته الاستيعابية، ما جعل التلاميذ يُحرمون إتقان المعارف القاعدية كالخط والكتابة والمحادثة والحساب، كما حُرموا النشاطات الرياضية والثقافية والترفيهية التي تنمي حسّهم الإبداعي والفني وتُقوّي بنيتهم الجسدية والعقلية.
ومن آثار هذا الوضع السلبي في التعليم، تنامي ظاهرة الدروس الخصوصية في الطور الابتدائي، لعدم قدرة المعلّم على الوفاء بمتطلبات المناهج الجديدة، في ظلّ ضعف الإمكانات التعليمية وانعدام التكوين وإغراقه بالمهام المكتبية وغير البيداغوجية، ما أدى إلى عدم تمكّن التلاميذ من استيعاب المعارف داخل حجرة التدريس، إضافة إلى عدم قدرة الأولياء على متابعة التعليم المنزلي لأبنائهم بسبب تقدّم مستوى المعارف وتخصّصها، وهو ما نجم عنه لاحقاً تراجع المستوى المعرفي واللغوي للمتعلمين في الطور المتوسط والثانوي لعدم التحكّم في المعارف القاعدية.