علّنا نصل في النهاية
عندي أزمة مبدئية ضخمة في الخروج من قطاع غزّة لغير الجرحى والمرضى، خاصّة بتنسيقٍ ما، لكنّي سأقدّم أيّ جهدٍ لمساعدة من يريد الخروج؛ مرادنا الإنسان ولن أدّخر جهدًا في إنقاذ روحٍ واحدة اختارت هذا الطريق.
في صدامٍ مع موقفِ السلطة من الإبادة، بخاصة في ما يتعلّق بمعبر رفح، لكنّي سأحيّي كلّ شاحنةٍ تدخل، وأسعى لتزيد، ولو بمقدارِ كرتونةٍ، وأنشر عنها وأدعو الناس للمشاركةِ فيها، كما سأساهم بما استطعت، ولو بالتعبئة والحمل.
في صدامٍ مع ارتهان أولادنا وبناتنا والإصرار على إبقائهم "أوراق مساومة" وأثماناً، لكنّي سأحتفل بتحريرِ كلّ معتقل/ة جديد/ة، وأشكر من قدّم جهدًا لتحقيق ذلك بعيدًا عن موقفي الرافض للمعادلة كلّها.
هذا حالٌ يُبرز التساؤل: هل نحن متناقضون؟ وأيّ رسالةٍ نرسلها لـ"الجمهور" المتابع من تناقض كهذا؟
والبداية في نظري تستوجب محاولة فهم هذه الخطوات التي تُظهر شيئًا من التناقض بين كلامِ بعض المعارضة وبين فعلها. والسؤال ابتداءً عن: هل تفعل السلطة شيئًا يؤدّي لانفراجة؟
نقوم بالدور، نفرحُ بأثره دون التعويل عليه كشرطٍ للقيام بما يجب القيام به، انطلاقًا منه، لا انحباسًا فيه
والحقيقة أنّ هذا سؤالٌ يستفزُّ من هو مثلي، رغم كوني واحداً من الأسماء/الحالات التي خرجت كأثرٍ جانبي لحالةِ الادّعاء التي تحاول السلطة ترسيخها وسيلةً للتعاطي مع الملفات والأزمات في البلاد، أي حالة "الجري في المكان" بتعريف الروائي العزيز أحمد ناجي، فعلى الرغم من اضطرارها أحيانًا لتقديم شيءٍ (لا يُذكر قياسًا بالمنتظر، والمطلوب، والأصل) إلا أنّه يبقى عملاً تمثيليًّا، لا ممارسة طبيعيّة.
وكما سبق أن أشرتُ، لما صاحب الإعلانات المتتالية عن الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وإعادة تفعيل لجنة العفو الرئاسيّة، وإطلاق الحوار الوطني، من انتهاكاتٍ منهجيّة بالغة الخطورة بحق المعتقلات والمعتقلين في أماكن الاحتجاز المختلفة، والانشغال "المفهوم" بخبرِ إفراجٍ هنا وإخلاء سبيلٍ هناك، عمّا يجري للآلاف الباقين خلف الأسوار (منهجيًّا وبقرار)، خاصّة أنّ قاعدةً ما، تمّ إقرارها في السنوات الأخيرة: "ما يُنشَر عنه، لن يحدث؛ لا سبيل لحلّ أزمة إلا بالتواصل المباشر"، والتواصل المباشر لا يحلّ إلا واحدة من كلّ ألف أزمة كما أثبتت التجربة. وهذا لم يُوقف فضح الانتهاكات والجرائم فحسب، إنّما حمّل مسؤوليّة استمرارها للقلّة المستمرّة في النشر/الفضح.
أفهم أن يُضطرّ أحدٌ لتقديم "تنازل" للسلطة في سياق اشتراطها عليه القيام به لتحرير رهائنه، لكن ترسيخ ذلك "التنازل" "قاعدةً" ليس خطرًا على المساحة، أو الحدود، أو المكانة فحسب؛ إنّما على الوجود، هذا مسار تصفية للبقيّة الباقية من احتمالِ الفعلِ السياسي مطلقًا.
وصحيح أنه يهمّ أيّ صاحب رسالة أن يشير لجمهوره بإنجازٍ ما يتحقّق، حتى يستمرّوا على الطريق، ولا يفقدوا الأمل في الوصول، ولو متأخِّرين. لكن بأيّ قدرٍ يمكن لهذا الأمل أن يكون مخادِعًا ومخالفًا، ولو بقدرٍ ما، لحقيقةِ الأمر؟
بأيّ حقّ يُعطي أحدنا نفسَه هذا النوع من الوصاية، والتضليل ربّما، على الناس، بأن يُسوّق لهم هذه الانتكاسات المتتالية باعتبارها "انفراجة". أليس الأجدى التذكير بأنّ هذا هو الدور الذي يجب القيام به، بعيدًا عن نتائجه وآثاره، وعلينا القيام به في كلِّ الحالات، بعيدًا عن كلّ حسابٍ للمكسب والخسارة، أو الجهوزيّة، أو التبعات؟
تبدو هذه الصياغة لعنةً أبديّة، سيزيفيّة على وجهٍ ما، لكنّ فيها شيئًا مطمئنًا: نقوم بالدور، نفرحُ بأثره دون التعويل عليه شرطاً للقيام بما يجب القيام به، انطلاقًا منه، لا انحباسًا فيه؛ علّنا نصلُ في النهاية.