عندما سحلوا الطيب تيزيني
فرّ الرئيس التونسي السابق، زين العابدين بن علي، وسقط بعده الرئيس المصري السابق، حسني مبارك. كان يوم جمعة وفارق التوقيت جعلني أتلقى الأخبار وقد مضى على حدوثها ساعات. وأجمل صباح في حياتي، كان يوم السبت 19 مارس/ آذار 2011. ففي هذا اليوم، وقبل أن أنهض من فراشي أو أغسل وجهي، سحبت اللابتوب، فإذا "فيسبوك" السوري يغصّ بالفرح والأخبار تتوالى تباعًا على صفحات الأصدقاء: درعا تنتفض!
طويت "فيسبوك" وأشعلت التلفاز على قناة الجزيرة لمدّة دقائق، ثم إلى قناة العربية فقناة بي بي سي. كلًها يتصدّرها الخبر السوري، وأطفال درعا حديث العالم. يا الله ماذا أفعل؟ أبكي، أصرخ، أفرح.. غرفتي الصغيرة تضيق بي، كندا كلّها تضيق بفرحي. أخيراً، السوريون يتحرّكون، ينتفضون على ذلّهم، يهزّون عرش الطاغية، يودّعون الخوف ويعلنونها للعالم كلّه: نحن شعب نستحق الحياة.
خرجت من غرفتي إلى الصالون، كان عثمان، زميلي السوداني في السكن، يجلس وحيداً يتابع التلفزيون. نسيت كلّ خلافاتي معه وصرخت بفرح: "عثمان الثورة بدأت في سورية". ابتسم وبدا فرحاً، أو هكذا تخيّلت، وقال لي: "ألم أقل لك إنّ السوريين سيتحرّكون". كان دائمًا، وفي أحاديثي القليلة معه، يقول: "سيثور السوريون".
"الشعب السوري ما بينذل"
عدت إلى غرفتي، إلى "فيسبوك". كانت الأيام التي سبقت 18 مارس/آذار، و"الفيسبوك السوري" (بحسب التعبير الذي نحته الكاتب والباحث اللبناني زياد ماجد) يؤرخ ليوميات الثورة بكلّ التفاصيل الكبيرة والصغيرة. الأيام الثلاثة تحديدًا (بدءًا من الخامس عشر من مارس)، كانت تُنذر أنّ شيئًا كبيرًا سيحدث و"الاستفتاء الحقيقي على بشار الأسد بدأ الآن ولن ينفع التزوير هنا". كان هذا بوست قد كتبته على صفحتي بتاريخ 18 مارس/آذار 2011، وأتبعته ببوست آخر يتوقّع وبسخرية تامة، وعلى عادة النظام السوري ودأبه في توزيع اتهاماته و"الشعب السوري متهم الآن بإسقاط هيبة النظام"، وذلك بعد المظاهرات والاحتجاجات التي بدأت تشغل الشوارع والأزقة السورية.
إرهاصات 18 مارس/ آذار بدأت مبكرًا، سواء عبر بعض الاعتصامات والمظاهرات الطيّارة والسريعة أو الاعتصامات التي قامت بها المعارضة السورية أمام السفارة الليبية وإضاءة الشموع على أرواح الليبيين الذي استشهدوا نتيجة قمع أجهزة الأمن الليبية، أو عبر ما بات يُعرف في التاريخ السوري المعاصر بـ"حادثة الحريقة"، تلك الحادثة التي جرت إثر إهانة شرطي لشابٍّ سوري في منطقة الحريقة في قلب دمشق، وتطوّر الأمر إثر ردّ الشاب المُهان على الشرطي بالمثل، ليتجمّع بعدها عشرات ثم المئات من المواطنين، مردّدين الهتاف الشهير "الشعب السوري ما بينذل"، وهو الشعار الذي غدا واحدًا من الشعارات الكثيرة التي رفعها المتظاهرون في المدن والبلدات السورية، مما استدعى تدخلًا فوريًّا من وزير داخلية النظام السوري، وعد فيه بمحاسبة الشرطي وهدّأ المتظاهرين، في تصرّف ربّما هو الأول من نوعه، الذي يقوم به مسؤول كبير منذ تسلّم حزب البعث السلطة في سورية. وإلى جانب تلك البؤر والتجمّعات الصغيرة التي كانت تنذر بالبركان السوري، كان هناك ما هو أهم، "منذ انطلاق الثورة التونسية حتى اللحظة الحالية، تراكمت لدى المواطن السوري وعبر الصورة القادمة من الفضائيات، ثقافة تلفزيونية كنست وستكنس ثقافة البعث القائمة على التدجين والتلقين لتحل محلها ثقافة مفرداتها الكرامة والحرية والشعب يريد" (هذا البوست كتبته بتاريخ 23 مارس/آذار 2011).
أدرك السوري، وفي زمن العولمة والفضائيات التي جعلت العالم حقًّا قرية صغيرة، أنّ قيده يمكن كسره والذل الذي يعيشه والقبضة الحديدية التي يرزح تحتها أنّ "إي في أمل"، كما عبّرت إحدى المواطنات السوريات على صفحتها بتاريخ 19 مارس/آذار 2011. كان للسقوط السريع لحسني مبارك وزين العابدين بن علي تأثير كبير في عزم السوريين على الخلاص من الوريث بشار الأسد. إنّما يدرك السوريون أنّ كلفة إسقاط طاغية كالرئيس الذي يتحكّم في مجرى الهواء الذي يتنفسونه، والذي ورث سورية عن أبيه الراحل حافظ الأسد، ستكون له كلفة عالية وعالية جدًّا، ولذلك تأخروا في ثورتهم، فهم أخبر وأدرى الناس بوكر الأفاعي والثعابين الذي سيمدّون أيديهم داخله، فلا حصانة لأحد عند نظام كالنظام السوري، وهناك أيضًا تعقيدات الموقع الجيوسياسي لسورية والتي يُدركها رأس النظام واستثمر فيها خير استثمار لمقايضة السوريين والعالم: إمّا هو أو لتذهب سورية من بعده إلى الجحيم. وهو ما تجلّى فاضحًا عبر شعار مؤيديه "الأسد أو نحرق البلد"، كذلك، كان النظام على دراية تامة بـ "الهندسة الاجتماعية"، تلك التي برع فيها أبوه، تلك الهندسة التي خبزت وعجنت المجتمع السوري كما يحلو لأيّ ديكتاتور هندسة المجتمع الذي يحكمه.
حسني مبارك وزين العابدين بن علي مجرّد تلامذة فاشلين في مدرسة حافظ الأسد القمعية والإرهابية
يكتب، الكاتب ومعتقل الرأي السابق، بكر صدقي بوستًا على صفحته بتاريخ 16 مارس/ آذار 2011، مُلخصًا شراسة النظام وعنفه، وأي قمع سيواجهه الشعب السوري في ثورته القادمة: "رأيتهم يجرون المفكر طيّب تيزيني بقسوة بالغة، اثنان أمسكا به من تحت إبطه وجرّاه بعيداً عن ساحة المرجة، وثالث يرفسه على ظهره طوال الوقت، وحين اقتربوا من عمود الكهرباء على الرصيف خبطوا رأسه بالعمود". حرّضني هذا البوست لكتابة بوست في اليوم نفسه أقول فيه: "عندما يضرب الطيب تيزيني ويهان وعندما يسجن عارف دليلة ويذل، وعندما يمضي ميشيل كيلو 3 سنوات في المعتقل، وعندما يمضي ياسين الحاج صالح زهرة شبابه في مختلف السجون السورية، وعندما يعتقل الفكر ويزج بخيرة نساء سورية ورجالها في المعتقلات، أدرك الآن لماذا أحرق التتار مكتبة بغداد وسوّدوا مياه دجلة والفرات".
في التاريخ ذاته 16 مارس/ آذار 2011 يورد الصحفي، عامر مطر، على صفحته، وهو الصحفي الذي اعتُقل ثلاث مرات فيما بعد، بتهم عدّة، الخبر التالي: "معتقلو مظاهرة 16 آذار في دمشق هم: عمر اللبواني، ياسين اللبواني، رنا اللبواني، عمار اللبواني، صبا حسن، عامر داود، هانيبال عوض - عشر سنوات، سهير الأتاسي، مازن درويش، سيرين خوري، ناهد بدوية، نارت عبد الكريم، محمود عوراني، بدر شلاش، كمال شيخو، أسامة نصار، ميمونة العمار، محمد أديب مطر، بشر جودت سعيد، سعد جودت سعيد، غفار محمد، دانة الجوابرة، وفاء اللحام، طيب تيزيني". أي متابع للشأن السوري وبنظرة بسيطة على الأسماء سيجد من بينها تلامذة العلامة الشيخ جودت سعيد داعية النضال اللاعنفي في سورية، ويفهم حينها لماذا أفرغت سورية من كل معتدليها ونشطائها السلميين بكل توجّهاتهم وأيديولوجياتهم وأضحت الآن مرتعًا خصبًا للإرهاب وداعش والنصرة والقاعدة.
في سياق أحداث ذلك اليوم الرهيب في حياة السوريين والمظاهرة التي تجمهرت أمام مبنى وزارة الداخلية بتاريخ 16مارس/ آذار 2011 المطالبة بالإفراج عن معتقلي الرأي، تكتب الروائية السورية سمر يزبك على صفحتها مفارقة مؤلمة: "هنيبال ابن المعتقلة رغدا الحسن، تركه والده عامر داود معي وقال: دقائق وأرجع لك. كان يمسك بيده ابنه الآخر، أنا وهانيبال ابن الأربع سنوات، نقف وسط ساحة المرجة، نلمح الأب والأخ الكبير ابن العشر سنوات يلقيان في حافلة مع معتقلين آخرين، يُضربون على أيدي قوات الأمن. يقول هانيبال: بدي روح معهن مشوار، ليش راحوا وتركوني؟ أشيح بوجهه كيلا ينظر إليهما وهما يُضربان".
يوميات الثورة جعلتني حبيس غرفتي وحبيس "فيسبوك" والفضائيات التي كانت تخصّص حيّزًا كبيرًا للثورة السورية. أهملت كلّ شيء آنذاك، حتى دوامي إلى المدرسة بات متقطّعًا، أمضي أغلب ساعات الليل والنهار أتلقط الأخبار، وأقرأ ما يدور من تحليلات. كنت مبتهجًا وسعيدًا ولكن بحذر، فهذا النظام لن يستسلم بسهولة، وحسني مبارك وزين العابدين بن علي مجرّد تلامذة فاشلين في مدرسة حافظ الأسد القمعية والإرهابية، هذه المدرسة التي جفّفت كلّ مظاهر السياسة في البلاد وما تتطلبه الثورات من سياسة، أعني السياسة فنًّا وتدبيرًا، إنّما أيضًا (وكنت أدرك ذلك كما الكثير من السوريين) أنّ انفجارنا سيحدث. ولكن كيف؟ ومتى؟ وما هي الكلفة؟ هذا كان في علم الغيب. وتتوالى اليوميات وكتابات الثائرين على النظام والموالين له، ويجمعها "فيسبوك" بين دفّاته.