عن ازدواجية المعايير واستنجاد الرأفة
حدّث ولا حرج عن بيانات الشجب والتنديد الهَزليّة، وكلمات استنجاد الرأفة المُذلِّة ودعوات ضبط النفس الفارغة التي تتصدّر المشهد كلّما هبّت الأزمات المفجعة، وسالت الدماء النقية، بعيداً عمّا يسمّى "زهواً" مركز الحضارة الإنسانية في الغرب.
وصل الوهن والهوان في بلادنا إلى درجةٍ لا تُوصف من الانفصال عن الواقع والبعد عن كلّ ما يحدث حولنا من إعادة رسم الخرائط والصراع على مراكز النفوذ التي تتجلّى وقائعه أمام أعيننا كما تشرق الشمس من الشرق وتحطّ رحالها في الغرب. يكفي النظر على سبيل المثال لما يحدث في سورية وليبيا والسودان وفلسطين وغيرها لاستخلاص العبر.
تُعدُّ سياسة تغذية النزاعات الداخلية وخلق بؤر التوتر القديمة/ الجديدة التي تهدف إلى إعادةِ رسم المرسوم وتطويع المُطّوع وهزيمة المهزوم، حقيقةً ساطعةً وجليّة لكلِّ من تمعّن في الواقع الأليم الذي نعيشه. ولكن، لماذا كلّما سالت دماء شعوب منطقتنا نتهم الغرب بازدواجية المعايير إذا كانت كلّ الحقائق على أرض الواقع تتنافى مع ذلك من حيث المبدأ؟
ليس لدى الغرب أيّ نوع من ازدواجية المعايير، وهذه التهمة باطلة جملةً وتفصيلاً. فالأمر لا يتعلّق به، بل بنا وحدنا فقط، نحن الذين نأخذ بأقوال الغرب لا أفعاله، ونتمسّك بشدّة بحبالِ الوهم القاتل الذي يجعلنا نتأمل أنّ المتنفذ قد يرحم الضحية يوماً ويُنصفها، فقط لأنه يدّعي في خطابه الرسمي أنّه الراعي الأوّل للإنسانية!
القضية ليست قضية ازدواجية معايير، بل هي قضية أولويات ومصالح ونفوذ وقناعة راسخة في التفوّق
فهل استجاب الظالم يوماً لاستنجاد المظلوم بالرأفة، أم زاده ذلك تعنّتاً وظلماً؟ وهل تخلّى المُستَغِل يوماً عن استغلاله طوعاً أم طُرِدَ صاغراً كما تشهد أرواح المليون ونصف مليون شهيد في الجزائر على سبيل المثال؟
المصالح والنفوذ والحفاظ على الهيمنة، هي المعايير الوحيدة التي تتبناها القوى التقليدية الكبرى التي، وإن تبدّل خطابها تبعاً للمرحلة التاريخية، لا يمكن أن تنسلخ عن هويتها الاستعمارية المتجذّرة في سياساتها الاستراتيجية الدولية، وما يترتب على ذلك من ضرورة إعادة تدوير سياساتها الخارجية التي تعزّز التبعية والهيمنة، وفقاً للظروف المرحلية على مبدأ الترغيب والترهيب وبناء التحالفات التي تخدم مصالحها وتوجّهاتها والتخلّي عن العلاقات التي لم تعد تخدم تطلعاتها.
بناءً على ذلك، لا يمكن التعويل على رأفةِ الخصم أو المنافس في مسرح السياسة الدولية. ولا يمكن الحديث عن المساواة بين الإنسان والإنسان بغضّ النظر عن الجذور الثقافية والعرقية والدينية، طالما أنّ ميزان القوى في العالم مُختل ورقعة الشطرنج خاوية.
غياب الردع الفعّال ووحدة الصف، وما يتبعها من تبعيةٍ اقتصادية وعسكرية تدفع شعوباً بأكملها نحو الهلاك، حتى وإن ظنّ البعض أنه مُحصّن في هذه اللحظة. المستقبل لا يُصنع من الرفاهية المُعلّبة المبنية على اقتصادات غير صناعية وشباب مستهلك غير منتج. فهل برأيكم نهضت ألمانيا من تحت الركام بعد الحرب العالمية الثانية بهمّة الشباب المستهلك المشتّت أم بالكد والعمل واستثمار المعرفة؟
لا تُستَمد قيمة الإنسان للأسف في عالمنا الحالي من حقيقة كونه إنساناً، بل من جنسيته ولون بشرته وقوة دولته وقدرتها على الردع والتأثير، وإن لزم الأمر الترهيب. فهل يُعامل العالم الليبرالي أحمد من اليمن، كما يُعامل سام من إنكلترا على سبيل المثال؟
يَظهر وجه الغرب الرسمي الحقيقي عندما تندلع الأزمات التي تهدد مصالحه ولا تتناسب مع أجندته
من هذا المنطلق، يمكننا القول إنّ القضية ليست قضية ازدواجية معايير، بل هي قضية أولويات ومصالح ونفوذ وقناعة راسخة في التفوّق، وبالتالي يَظهر وجه الغرب الرسمي الحقيقي عندما تندلع الأزمات التي تهدّد مصالحه ولا تتناسب مع أجندته القائمة على أساس الترنّح بين الهيمنة الناعمة حيناً، والخشنة أحياناً أخرى، إن صح التعبير.
وكما لكلّ دولة أو حلف، الحرية في اختيار سياساته، يتوجّب علينا نحن أيضاً العمل على تقوية أنفسنا حتى نتمكن من المناورة والمنافسة والحفاظ على مصالحنا بدلاً من تقاذف الاتهامات واستنجاد الرأفة.
لا بدّ لنا أيضاً من التخلّص خطوة بخطوة من خلافاتنا والعمل على خلق سياسة مستقلة تكافلية بعيداً عن فكرة الوحدة بمنظورها القومي، وإنّما السعي لنوعٍ من الوحدة القائمة على وحدة المصالح والنظرة الاستراتيجية. فمهما حاولنا تجميل الواقع، لن يتساوى الحاكم والمحكوم ولن يُعامَل الضعيف باحترام ونديّة حتى يقوى، ولن يتباكى الحاكم المتعالي على الضحايا إذا كانوا لا يخدمون مصالحه ويعبّرون عن رؤيته.