عن التحوّل الرقمي وضرورته
تقف البلدان العربية اليوم على مفترق حقيقي، ازداد تشعباً وتعقيداً في السنوات الأخيرة. وكيف لا، ونحن في زمن التحوّلات المتعدّدة والسريعة بامتياز، بدءاً من التحوّل السياسي إلى التحوّل الطاقي إلى التحوّلات والتغيّرات المناخية، وصولاً إلى التحوّل الرقمي الذي أصبح موضوعاً مهماً منذ سنوات، وشرطاً أساسياً من شروط التقدّم والوجود في آن. فأين نحن من هذا التحوّل؟
لا أحد يشكّ في وجود محاولات في هذا الاتجاه منذ الوعي بالتحوّلات التكنولوجية السريعة، خاصة مع انتشار الإنترنت، والذكاء الاصطناعي، والهواتف الذكية، وذلك عبر تطوير البنية التحتية للاتصالات وإيجاد قوانين تنظّم المجال، ورقمنة خدمات خاصة عدة في القطاع الخاص، وبعض الخدمات الإدارية في القطاع العام، والقيام ببعض البرامج من نوع الحاسوب العائلي، بغية تسهيل دخول المواطن في هذا التحوّل.
مع ذلك، فإنّ حياتنا اليومية مع الإدارة وغيرها من مقدّمي الخدمات بمختلف أنواعهم تشهد على أنّ استعمال الرقمنة ما زال محدوداً، وأنّ الوسائل التقليدية ما زالت تسيطر على المشهد، منها: تواصل استعمال الأوراق في أغلب الخدمات الإدارية، وفي كلّ القطاعات تقريباً (في بعث المؤسسات، في التصريح لدى القبوضات المالية، في التعليم، وغيرها..) والحاجة الدائمة للحضور الشخصي للمواطن والزبون إلى مكاتب المؤسسات والإدارات للقيام بالإجراءات، للحصول على خدمات كان يمكن أن تكون رقمية، وعن بعد.
ومن علامات محدودية الرقمنة أيضاً، عدم ارتباط الأنظمة المعلوماتية فيما بينها، وإن وُجد ارتباط ما، فإنّه بقدر غير كاف، وهو ما يُعقِّد إنجاز الخدمات بالنسبة إلى المواطن أو المراجع أو الزبون، حيث يكون مضطراً للاتصال بأكثر من مكتب، وأكثر من مؤسسة من أجل الخدمة نفسها.
وأمّا من جهة المجتمع، فيمكن ملاحظة قلّة انخراط المواطن والزبون في استعمال ما تتيحه إدارات ومؤسسات عدة من تطبيقات رقمية، وميلهم إلى الطرق التقليدية، وذلك لأسباب عدة، بعضها تقني وفي علاقة بمدى الثقة في هذه التطبيقات، وبعضها مرتبط بقلّة الوعي بأهمية الرقمنة، وما تمنحه من فوائد.
هذا التأخر في إنجاز التحوّل الرقمي، هو عنوان فرص ضائعة للتطوّر الاقتصادي والاجتماعي في بلداننا. وغياب الرقمنة يعني ضياعاً للوقت والمال، وضياعاً لفرص المحافظة على الحرفيين المهرة وربح أسواق جديدة في عالم ميزته التنافس الشديد. هي إذن خسارات مضاعفة بين عدم تحقيق التحوّل، وإهدار الفرص التي كان من الممكن ربحها، وعدم مواكبة التطوّرات التكنولوجية وإمكانية خسارة الرصيد الحالي من الأسواق، وهو ما يطرح السؤال حول الأسباب والحلول الممكنة.
خسارات مضاعفة بين عدم تحقيق التحوّل الرقمي، وإهدار الفرص التي كان من الممكن ربحها
في تقديري أسباب ذلك متعدّدة ومتداخلة، لكن أهمها هو غياب رؤية شاملة جامعة لمشروع التحوّل الرقمي. إنّ أغلب ما شاهدناه في هذا المجال، محاولات لمؤسسات أو قطاعات معينة، وهي محاولات في مجملها متفرقة ومحدودة. إنّ وجود هذه الرؤية الشاملة على مستوى البلاد هو البداية الأساسية للحل، هذه الرؤية التي يجب إدارتها كمشروع، وهي تمثّل إطار العمل لتحقيق التحوّل الرقمي، الذي يقع فيه تحديد الأهداف، وشروط الإنجاز، ومناقشة التحديات، والبحث عن الحلول العملية لها.
وتنبني هذه الرؤية على عناصر عدة معروفة أهمها:
- تحديد الأهداف التي نريد الوصول إليها على المدى القريب والمتوّسط والبعيد، بناء على دراسة الواقع بمختلف أبعاده.
- المراهنة على الرأسمال البشري وفيه طرفان، الأول هو مستعمل الخدمة الذي يجب أن يكون في مركز الاهتمام من خلال الإنصات إلى حاجياته وتشريكه في العملية لضمان انخراطه في المشروع منذ البداية، وليكون المنتوج في مستوى انتظاراته. والطرف الثاني هم القائمون بعملية الرقمنة من مهندسين وإداريين وموظفين وغيرهم من جميع الاختصاصات، وذلك بالعناية بهم من مختلف الجوانب المادية والتكوينية وظروف العمل، خاصة مع ظاهرة هجرة الكفاءات التي تمثّل تحدّياً حقيقياً لإنجاز التحوّل الرقمي.
- حسن اختيار التكنولوجيات الحديثة، وخاصة قابليتها للتأقلم مع سرعة تطوّر التقنيات.
- دعم برامج الابتكار التكنولوجي من أجل خلق نسيج داعم للتحوّل الرقمي، ويمكن أن يكون ذلك بتأسيس مراكز مختصّة، والتشجيع على البحث والتطوير، والتشجيع على تأسيس الشركات الناشئة التي تعتمد التقنيات الحديثة، وبعث مشاريع ومبادرات رقمنة كبرى (من الدول التي قامت بذلك الإمارات العربية المتحدة من خلال مبادرات "الإمارات الذكية"، "اقتصاد المعرفة").
- الاهتمام بالمعطيات والاشتغال عليها لتحديد الاستراتيجيات، وفهم الحاجيات واستباق كلّ الإشكاليات واتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب.
- إعطاء عنصري الجودة والسلامة المعلوماتية، الأهمية اللازمة لأنّها عناصر أساسية لنجاح عملية الرقمنة للحماية من جهة ودعم ثقة المستعمل في الرقمنة من جهة أخرى.
- التعاون الدولي والاستئناس بتجارب دول نجحت في التحوّل الرقمي على غرار بعض دول الخليج، وسنغافورة وإستونيا وغيرها. من نجاحات هذه الدول تقديم خدمات حكومية رقمية، وتوزيع الوثائق الرسمية عن بعد، وصولاً إلى التصويت في الانتخابات كما في إستونيا.
- المتابعة والتقييم والتحسين المستمر، وهي ضرورية بالنظر إلى التحوّلات التقنية السريعة، وتطوّر حاجيات المواطن والزبون.
- التوعية وتشجيع المشاركة المجتمعية في تعزيز الوعي بأهمية التحوّل الرقمي وإيجابياته.
إنّ التحوّل الرقمي عملية ليست سهلة وتستغرق وقتاً طويلاً، بل هي عملية متواصلة، وهي شأن المجتمع بأكمله، لذلك فإنّ التفكير فيه يهُمّ الجميع: الدولة بكلّ مؤسساتها، القطاع الخاص، المجتمع المدني، وكلّ الخبراء والمسؤولين.
إنّ مشاركة مختلف المتدخلين في النقاش والتفكير في الموضوع يساهم في وضع رؤية شاملة علمية ودقيقة، وخطة عمل تسمح بإطلاق مشروع تحقيق هذه الرؤية، وفق خطة زمنية محدّدة.