عن الثانوية العامة وكرة القدم الساحرة
وأنا صغير كنت وأقراني نلعب الكرة "الليف" المصنوعة من جذوع النخيل، كانت لعبة مرهقة لنا نحن الصبية، فقد كانت ثقيلة الوزن وتتطلب بنية جسمانية غير متوافرة لدى معظمنا.
ثم تطور الأمر إلى الكرة الشراب المصنوعة من الجوارب القديمة المحشوة بالقطن والملابس والخرق واللفافات، والتي تحولت في فترة ما إلى لعبة شعبية في صعيد مصر وقراها لسنوات طويلة، بل صنعت نجوماً كباراً. وقد رصدت أفلام عدة هذه اللعبة الجماهيرية مثلما فعل المخرج البارز محمد خان في فيلمه الشهير "الحرّيف" إنتاج 1984.
كنا أيضاً نلعب ألعاباً أخرى، لكنّها عنيفة مثل "الزقلة" والعصا، أو لعبة الحطب والشومة والتي غالباً ما كانت تنتهي بإصابات جسيمة في القدمين وأحياناً في بقية الجسد، وأحياناً تصاحبها خناقات بين الصبية المصابين، لكن تظل لعبة الشراب هي الأبرز طوال سنوات.
عندما التحقت بالمرحلة الابتدائية في بداية سبعينيات القرن الماضي عرفت قريتنا الواقعة في قلب الصعيد وغيرها من قرى ومدن مصر كرة القدم بمعناها الحالي.
ومع إقبال الشباب الشديد على ممارسة هذه اللعبة، كانت التعليمات الصادرة دوماً عن أهالينا هي البعد عن كرة القدم، وربطها بالفشل والإخفاق التعليمي والحصول على درجات متدنية في المدرسة.
وحتى عندما كنا نختلس دقائق لممارسة تلك اللعبة في الشوارع والأزقة الضيقة والحارات، كان الأهالي يطاردوننا من حارة لأخرى ويشوّهون صورة قائد الفريق وينعتونه بالفاشل.
كانت التحذيرات متواصلة طوال المرحلتين الابتدائية والإعدادية، "انظر إلى فلان الذي فشل في استكمال دراسته الابتدائية بسبب انشغاله بكرة القدم"، وانظر إلى فلان الذي رسب في الشهادة الإعدادية لأنّه "مش فاضي للمذاكرة"، وانظر إلى فلان الذي ظلّ 3 سنوات في السنة الأخيرة من الثانوية العامة التي يتطلب اجتيازها عاماً واحداً للطلبة الشاطرين.
عندما كنا نختلس دقائق لممارسة تلك اللعبة في الشوارع والأزقة الضيقة والحارات، كان الأهالي يطاردوننا من حارة لأخرى ويشوهون صورة قائد الفريق وينعتونه بالفاشل
هذه التحذيرات زادت عقب دخولي الثانوية العامة، تحذيرات قاسية ومتلاحقة وتخيّر الواحد ما بين مقاطعة كرة القدم والتفوق في الدراسة والحصول على درجات مميزة في الثانوية والالتحاق بأفضل الكليات: "إذا انشغلت بالكرة، فلن تجد الوقت والتركيز الكافيين لتجاوز هذه السنة الصعبة"، ربط مستمر بين الالتحاق بكليات الطب والهندسة والإعلام والسياسة والاقتصاد ومقاطعة لعبة كرة القدم "وأنت حر" كانت الكلمة تقال مصحوبة بتهديدات مبطنة والحديث عن فشل مرتقب وضياع المستقبل.
وللأسف صدّقتُ هذه المقولات ورحت أتفادى اللعبة الساحرة، رغم حبي الشديد لها وتشجيعي لأشهر نادٍ في مصر، لكن عقب التحاقي بإحدى كليات القمة، كما وعدت أهلي، قلت لنفسي: "لقد تجاوزت مرحلة الخطر، الثانوية العامة، هنا من حقي أن أعود للساحرة، لعبة كرة القدم" وقد كان، إذ كانت المرحلة الجامعية فرصة للعودة، حيث ملاعب جامعة القاهرة والمدينة الجامعية الفسيحة والأنشطة الرياضية داخل الكلية.
لكن، عدت لمقاطعة المستديرة مرة أخرى مع التحاقي بالعمل وعالم الصحافة المرهق، حيث لا وقت متاحاً لممارسة هوايتك المفضلة، ربما كان الاستثناء الوحيد هنا هو القراءة، وهي الهواية التي ظلت تلازمني طوال حياتي حتى الآن.
وتمر السنوات، ومعها يكبر أولادي الذين أجدهم مدفوعين بحب الرياضة، خاصة كرة القدم، هنا أجد نفسي مندفعاً نحو الاهتمام بالكرة السحرية ضارباً عرض الحائط بالنصائح التقليدية، وهي أنّ كرة القدم ملهاة للشعوب ومضيعة للوقت، فهذه اللعبة لها مزايا عدة، منها اللياقة البدنية وزرع روح التسامح والتقارب بين الناس، وقد وجدنا كيف أنّ مباريات كأس العالم 2022 فعلت ما لم تفعله الجامعة العربية، إذ وحّدت الشعوب العربية...
كلنا هللنا وسعدنا حينما فازت منتخبات المغرب وتونس والسعودية، لكنّ أهم ميزة للكرة هي أنّها خلقت حواراً مستمراً بيني وبين أولادي، غالباً ما أبدأه بنفسي، لندخل بعدها في نقاش راقٍ نتبادل خلاله وجهات النظر حول نتيجة مباراة ما أو تقييم أداء فريق، لنؤكد عملياً أنّ كرة القدم رمز للتسامح وليس العصبية، كما كان يحلو للبعض أن يصور لنا على مدى سنوات طوال.