عن الحج ويوم التروية
عبد الحفيظ العمري
إنّ يوم الثامن من ذي الحِجة الحرام هو يوم التروية، وقد تفاوتتْ الروايات حول سبب التسمية، بين من قال إنّه سمّي كذلك لأنّ الحجّاج يرتوون فيه من ماء زمزم بمكة ثم يخرجون به إلى مِنى (على بعد 7 كم شمال شرق مكة)، وبين من قال إنّه سُمّي كذلك لأنّ نبينا إبراهيم، عليه السلام، رأى في الليلة التي تسبقه رؤيته المشهورة التي يُؤمر فيها بذبح ابنه إسماعيل، فأصبح يروي في نفسه أهو حلم؟ أم أمر إلهي؟ وقيل أيضا، إنّه سُمّي كذلك لأنّ الله عز وجل أرى إبراهيم مناسك الحج في ذلك اليوم.
وأنا أميل إلى السبب الأول، لأنّ سبب التسمية لا يزال جارياً حتى اليوم، وسيظلّ ما دام هناك حج وحجيج. كما أنّ اشتقاق اللغة للسببين الآخرين لا تدعم ذلك؛ فكلّها رؤيا أو رؤى، والاشتقاق منها (يوم الرؤية) وليس التروية!
وأيّا كانت مسبّبات الاسم، فقد صار يوم التروية مبدأ مناسك الحج التي تتلاحق بعد ذلك حتى مغادرة البقاع المقدسة.
أتذكر عندما كنا نتحلّق حول التلفاز لمشاهدةِ قناة صنعاء، قبل ظهور الفضائيات، وهي تبثّ جبل عرفات ومشاهد الحجاج هناك. تلك مشاهد لم تغب عن ذهني، وما كان ينتابنا من مشاعر فيّاضة لتلك المشاهد. ولكن أين ذهبت تلك المشاعر؟ لماذا تجمّدت في هذا الزمان الكئيب؟ هل غرقنا في لجّات الدنيا، فما عاد لشعائر الدين صدى في نفوسنا الكالحة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.
حقاً حقاً حقاً حقاً
صدقاً صدقاً صدقاً صدقاً
إنّ الدنيا قد غرتنا
واستهوتنا واستلهتنا.
لم أحج بعد، لكنّي قد عشتُ المناسك في كتاباتِ المؤلفين المسلمين المعاصرين وهم يصفون مشاعرهم في تلك البقاع، وعندي أنّ أجملهم وصفاً وسرداً هو الدكتور، مصطفى محمود، في كتابه "الطريق إلى الكعبة"؛ فهو يشرح بأسلوبٍ رشيق مناسك الحج من طوافٍ وسعي وغيرها، مجيباً، في الوقت نفسه، عن التساؤلات التي تُثار حول تلك المناسك، تلك التساؤلات التي ضمنها، بعد ذلك، في كتابيه "حوار مع صديقي الملحد" و"الإسلام.. ما هو؟"
وما دمنا مع جوِّ الحج، فأعجب ما قرأتُ هو أنواع تلبيات العرب في الحج قبل الإسلام، من ذلك تلبيات (بالجمع) اليمن:
تلبية قبيلة عَكّ:
عَكٌّ إليك عانية
عبادُك اليمانية
كيما نحجُّ ثانية
على قِلاصٍ ناجية.
وعَكّ قبيلة من الأزَد اليمنية، أما (عانية) فتعني المطيعة، في حين أنّ القلاص الناجية هي الإبل الفتية السريعة..
أو تلبية مذحِج:
إليك يا رب الحلال والحرمْ
إليك يا ربّ الحلالِ والحَرَمْ
والحجرِ الأسودِ والشهرِ الأَصَمّْ
على قلاص كحنِيّاتِ النَّشَمْ
جِئناكَ ندعوكَ بحاءٍ ولَمَمْ
نكابِدُ العَصْرَ ولَيْلاً مُدْلهمْ
نقطعُ من بينِ جبالٍ وسَلَمْ
وهول رعدٍ وبُرُوقٍ كالضّرَمْ
والعِيسُ يحمِلْنَ حلالاً وكَرَمْ.
وكانت تلبية عَكٍّ ومذحج معاً؛ إذ يخرج رجلٌ مِنْ مَذْحِج ورجلٌ مِنْ عَكٌ فيقولان:
يا مَكَّةُ الفاجِرَ مُكِّي مَكّا
ولا تَمُكِّي مَذْحِجاً وعَكّا
فيترك البيتَ الحرامَ دكّا
جِئنا إلى رَبِّكَ لا نَشُكّا.
والمَك هو الإهلاك والقصم؛ قال ابن فارس: "ويقال: سمِّيت مكّة لقلّة الماء بها، كأنَّ ماءها قد امتُكَّ. وقيل سمِّيت لأنها تمُكُّ مَن ظَلَمَ فيها، أي تُهلِكه وتَقْصِمُه كما يمكُّ العظم".
في حين كانت تلبية حِمْيَر:
لَبَّيْكَ اللهّمَّ لَبَّيْكَ
عن الملوكِ الأَقيال
ذوي النُّهى والأحلامْ
والواصلين الأَرْحامْ
لا يقربون الآثامْ
تنزُّهاً وإسلامْ
ذلّوا لربّ كرَّامْ.
وكانت تلبية همدان:
لبَّيْكَ مَع كلِّ قَبِيلٍ لَبُّوكْ
هَمْدانُ أَبناءُ الملوكِ تدعوكْ
فاسمعْ دُعاها في جميعِ الأُمْلُوكْ
كَيْما تُؤَدِي حَجَّها ويُعطوكْ
لعلّها تأتيكَ حَقًّا لاقوك
قد تركوا الأوثانَ ثم انتابُوكْ
لَسْنا كقومٍ جهلوا وعادوكْ.