عن الحرب والتعقل
عبد الحفيظ العمري
انقطعت علاقتي بالعديد من الأفراد منذ عام 2011 بسبب الآراء السياسية، أو بالأصح الاختلاف في الآراء السياسية. أقول هذا الكلام بكلّ أسف؛ لأنّه من المفترض أن تكون السياسة مجرّد رأي وليست نهاية الكون حتى تنقطع علاقتك بالناس. لكن! وما أغرب الكلام بعد كلّ (لكن)، حيث يرى العرب في تكتلاتهم السياسية صورة "القبائل" التي فقدوها من زمن، لذا تراهم يناضلون من أجلها بكلّ ما أوتوا من قوة إلا ما رحم ربك.
هم يزعمون أنهم يمارسون سياسة، ولا سياسة هناك، لأنّ السياسة هي فن الممكن، ونحن لو تصفحنا الأمر برمته سنجد أنّه لا سياسة ولا هم يحزنون، فكلّ هذه "الكانتونات" الطافية على السطح مجرّد واجهة للمحافظة على المصالح والامتيازات والهبات، أو للوصول إليها، لذا فدفاعهم المستميت عنها، إنما هو دفاع عن المصالح والمغانم ضمن المحدّدات الثلاثة: القبيلة والغنيمة والعقيدة، تلك هي المحدّدات التي حكمت العقل السياسي العربي في الماضي، ولا تزال تحكمه بصورة أو بأخرى في الحاضر، كما شرحها الدكتور والمفكر المغربي الراحل، محمد عابد الجابري، في عمله الفكري الشهير، نقد العقل العربي؛ حيث أصبحت القبيلة محرّكا للسياسة، والريع جوهر الاقتصاد، والعقيدة دافعاً للفعل وتبريراً للقمع.
فلمنْ دعوات التعقّل إذن؟
لذا فقد سَئمتْ من دعوات "التعقّل" التي نردّدها، ومَللتْ من صيحات التحذير التي نطلقها حول النسيج الاجتماعي الذي انفرط عقده. كما أصبح الحديث عن لمّ الصف، ونبذ العنف و... مثل "الآذان في مالطة!".
التطبيل لكلّ طرف من قبل المستفيدين منه، هو منْ ضيّع هذا البلد، ولا عزاء لأحد
يقول الواقع الحاضر، إنّ كلّ يوم من الحرب يُخرج سوءات المجتمع اليمني أكثر وأكثر، حتى بتنا نستغرب لكلّ ما يجري فيه!
الكلّ ضد الكل، الكلّ استعاد ثاراته وحروبه القديمة والجديدة، وأصبحت التيارات المختلفة في خندق المواجهة، فلمنْ دعوات التعقل المنشودة إذن؟ هل أصبحت مجرّد دعوات "ترف" في زمن البارود؟
أحرق المتصارعون كلّ سفنهم، والتقوا في جبهات القتال على امتداد الجغرافيا اليمنية، حتى المثقفون (الذين كنت أعوّل عليهم أن يكونوا صمّام أمان تياراتهم) انقسموا إلى أنواع متعدّدة: منهم المطبّل لتياره، ويستغل ثقافته "والكلمتين التي في رأسه" في التبرير لجرائم تياره، ونوع صَمَتَ صمْت القبور، وآخر هاجر تاركاً البلد وما فيها، وراح يكيل اللعنات للجميع من بعيد!
قليلون منْ يصدحون بكلمة الحق في بلادي، والتطبيل لكلّ طرف من قبل المستفيدين منه، هو منْ ضيّع هذا البلد، ولا عزاء لأحد.
يقول الشاعر الكبير أحمد مطر:
يا واهبَ مملكةِ العقلْ
لا صوتَ بأوطاني
إلا صوتُ الطبلْ!