عن خسارةِ أشياءٍ لا نريدها
في بدايةِ كتاب "دليل المسافر إلى المجّرة" لدوغلاس آدمز، تبدأ الأحداث بإزالةِ منزلٍ، دون تنبيه صاحبه، وعند اعتراضِه على الإزالة المفاجئة، كان الردّ بأنّ القرار قد صدر منذ فترةٍ طويلة لمدّ طريقٍ مكانَ المنزل، دون أن تهتم بالقدر الكافي للبحث في الأمر، كي تطمئن على الأقل! وبعد لحظاتٍ من تلقيه خبر الإزالة، يتلقى من صديقه ورفيق الحانة خبرًا أكثر غرابةً، مفاده أنّ الكوكب كلّه سيُزال كما حدث مع منزله، وذلك بهدف مدّ طريقٍ عابرٍ للمجرّات.
تتوالى الأحداث، ويبدأ البطل في تلّقي الصدمات تباعاً ليكتشف أنّ حياته التي يعرفها انتهت، وإلى الأبد، وأنّه لا يستطيع حمل أيّ شيء معه خلال رحلته حول المجرّات، سوى منشفةٍ كما تقتضي القاعدة.
ومع كلّ ما يحدث حوله، لا يجد الوقت لافتقادِ شيءٍ محدّد، أو الاعتراض على تركه غرضاً بعينه، ومع الزمن يجد الأمر أكبر بكثير مما خطر له في أعتى خيالاته؛ ففي الصباح كان يشعر أنّ حياته على وشك الانتهاء، حتى سمع الخبر الثاني ليعلم أنّها انتهت بالفعل، فكلُّ شيءٍ ينتهي حولنا ولا تعطينا الحياة الفرصة لاكتشاف ما نحن على وشكِ خسارته، وإلى الأبد.
في "دليل المسافر" تنصّ القاعدة على التجول بالمنشفة، لأنّها متعدّدة الاستخدامات، ومفيدة جداً للمتجوّل، وتغنيه عن كلّ الأشياء المادية المحمولة كما تنص القوانين، وكما جرت العادة.
كل شيء ينتهي حولنا ولا تعطينا الحياة الفرصة لاكتشاف ما نحن على وشك خسارته إلى الأبد
وفي وقتنا الحالي، ومع السرعة التي أصبحت تحكم حياتنا وعلينا مواكبتها، أصبحنا مطالبين بحملِ الكثير من الأشياء طيلة الوقت، والاعتماد على الكثير من الأشياء، سواء في المنزل، أو المكتب، أو السيارة، وعند السفر.. المهم أنّنا أصبحنا عالقين وسط ماديات يُفترض أنّها تُسهّل علينا الحياة وتجعلنا نستفيد من كلِّ لحظة.
رفاهيات وكماليات كانت مجرّد أحلام وخيالات في الماضي وتنعمنا نحن بها، حتى تحين اللحظة التي تجبرنا الحياة فيها على التخلّي عن كلِّ شيء، فلا تعطينا فرصةً للشرح، ولا حتى تُعطينا ميزة الاحتفاظ بالمنشفة!
نحن أيضًا نتعرّضُ لمواقف مشابهة لما حدث في الرواية، أو لحادثٍ عارضٍ بسيط، أو لكارثة طبيعية، فيما في الواقع ثمّة كوارث نفعلها نحن البشر، وتتسبّب بإبادة القرى والبيوت وتمحو أشخاصًا من الحياة خلال ثوانٍ معدودات، وليس فقط أشياؤهم. كانوا هنا معنا، وفي اللحظة التالية، وقبل أن نعي ما حدث، غادرونا، ولم يبق لبعضهم أيّ أثر، وكأنّهم لم يكونوا هنا على الإطلاق، ولا حتى قصة تُروى لتذكّر بهم كلّ من يأتي بعدهم.
نحتفظ بالكثير من الأشياء المادية التي تربطنا بمكانٍ ما، أو تساعدنا في حياتنا اليومية، لتذكّرنا بلحظاتٍ سعيدةٍ مررنا بها، كما نحتفظ بأعباءٍ تُقيّدنا، معتقدين أنّنا لا نستطيع التخلّي عن أيّ من هذا، حتى تأتي الحياة لتذكرنا بأنّ كلّ ما نملكه لا يمكننا الاحتفاظ به إلى الأبد، ولن يساعدنا على تخطّي ما نمرّ به في الحياة الواقعية، ولا إصلاح ما فَسد، حتى لو سُمِحَ لنا بالاحتفاظ بالمنشفة.