غزة وحال "المثقف" العربي
عبد الحفيظ العمري
يواصل العميقون من مثقفينا العرب جدالاتهم حول ما يجري في أرض غزة من "أحداث" كما يسمونها! نعم، هكذا "أحداث" تجري بين "فصيلَين" متقاتلَين، كلّ واحد منهما يريد أن يفرض قواعد اشتباك جديدة على أرض الواقع، وأنّ المدنيين الذين يسقطون من "الجانبين" هم ضحايا لهذا الاشتباك بين الفصيلَين المتقاتلَين.
ويُواصل هؤلاء (العميقون) تحليلاتهم "الاستراتيجية" حول عدم مراعاة توازن القوى أثناء الاشتباكات أو الأحداث، وأّنّ الشعوب التي تجرّها عاطفتُها جرّاً إلى الشوارع لا تعرف ما في القضية من أبعاد عميقة تدور في كواليس الدول العظمى المحرّكة لكلّ شيء، ولا بدّ من "شوية" مصطلحات فلسفية حول ماهية الدول، ونظرية الديالكتيك الهيغلي، ومآل الدول، وكيف يضع الغرب استراتيجيات بعيدة المدى عن العقود المقبلة في هذه المنطقة الحسّاسة من العالم...
حقيقةً، إنّ كلام هؤلاء يجعلني أراجع مصطلحات كثيرة تعوّدنا على عدم التدقيق في مدلولاتها، مثل مصطلح المثقف؛ فمنْ هو المثقف؟
هل هو من طينة هؤلاء الذين يرون أنّ الاحتلال، بكلّ جبروته وصلافته التي أدانها العالم قاطبة، وفصائل المقاومة الفلسطينية مجرّد "فصيلَين متقاتلَين"؟ وأنّ المدنيين العزّل الذين يسقطون على أرض غزة جرّاء غارات الاحتلال الهمجية في درجة واحدة مع المستوطنين الذين اغتصبوا الأرض؟ وأنّ هذه المعركة الدائرة مجرّد "أحداث" تعرضها نشرات الأخبار؟ وأنّ القضية التي عمرها أكثر من 75 عاماً تقلّصت واختُزلت لدى مثقفنا الهمّام إلى فرض قواعد اشتباك جديدة على أرض الواقع، وأنّ تعاطف شعوب العالم مع الضحية نابع من جهلها للأبعاد العميقة الدائرة في كواليس الدول العظمى.
وأظنّ أنّ مسمّى "المقاومة" لدى مثقفنا العبقري، والمطلع على تاريخ الإنسانية (كما يقول عن نفسه)، ليس إلا زعزعة للاستقرار الذي كان سيفضي لحلّ القضية الفلسطينية بدون إراقة الدماء، لكن حركة حماس ومَنْ عاونها أفسدوا الأمر برمته، لأنّهم لم يراعوا توازن القوى، وكان عملهم تهوّراً دفع ثمنه المدنيون الأبرياء الذين سقطوا شهداء، ولا يزالون، كما يقول مثقفنا الهمّام!
المثقف الحقيقي هو الرائد الذي لا يكذّبُ أهلَه، فما بال بعض مثقفينا لمّا حمى الوطيس، كانوا وطيساً على القضايا العادلة، وهل هناك قضية عادلة في هذا العصر تفوق قضية فلسطين؟
هذه عينة من آراء مثقفينا العميقين الذين يشغلون حيّزاً كبيراً من حياتنا الثقافية العربية، وكأنّ الثقافة مجرّد تنظير في تنظير، وليس التحاماً حقيقاً بالقضايا المصيرية التي تهم أمتهم.
المثقف الحقيقي هو الرائد الذي لا يكذّبُ أهلَه، فما بال هؤلاء لمّا حمى الوطيس، كانوا وطيساً على القضايا العادلة، وهل هناك قضية عادلة في هذا العصر تفوق قضية فلسطين؟
لقد استعمل مثقفنا الهمّام ما لديه من معارف في جدليات تحرف المستمع عمّا تدعوه إليه فطرته السليمة، تلك الفطرة التي أخرجت شعوب العالم متعاطفةً مع أهالي غزة. وحتى لا نستغرب من هؤلاء "المثقبين"، كما أسميهم، يفضي لنا المفكر علي عزت بيغوفيتش بفحوى هذا الأمر بقوله: "التعليم وحده لا يرقى بالناس ولا يجعلهم أفضل مما هم عليه أو أكثر حرية، أو أكثر إنسانية. إنّ العلم يجعل الناس أكثر قدرة، أكثر كفاءة، أكثر نفعاً للمجتمع. لقد برهن التاريخ على أنّ الرجال المتعلمين والشعوب المتعلمة يمكن التلاعب بهم، بل يمكن أن يكونوا أيضاً خدّاماً للشر، ربما أكثر كفاءة من الشعوب المتخلفة"!
فيا أيها العميقون اتركونا جانباً، نحن البسطاء الذين تحرّكنا العاطفة إزاء كلّ قضية من قضايانا العربية، اتركونا في جهلنا، كما تروننا، فنحن في غنىً عن مصطلحاتكم العويصة، وتحليلاتكم الاستراتيجية العميقة، فالذي نفهمه مما يجري، هو أنّ شعباً يقاوم محتله بما تيسّر له من أدوات، كما عرف ذلك من آبائه وأجداده الذين سقطوا شهداء من أجل أرضهم، وكفى!