غزّة التي تعرِفُنا، لا نعرِفُها
يُولد الإنسان بين أكفّ والديه وبينهما يترعرع حتى صباه، يتطوّر إدراكه تدريجيًا بتطوّر حواسه، فيعرف أنّ الجدران الأربعة تُشكل مساحة الغرفة، وأنّ مجموع الغرف المتلاصقة تمثل له بيتاً، وأنّ لذلك البيت باباً هو ما يفصله عن العالم الخارجي حيث تنتظره حياة أخرى، فيخطو خطوته الأولى خارج الباب، ليدرك أنّ هناك بيوتاً أخرى تشبه بيته ويتعرّف على أطفال تلك البيوت، فيكوّن علاقة وطيدة، حدودها الحارة ودكان العم.. وتتسع مرّة أخرى تلك الحدود لتصبح المدرسة والطريق المؤدّي إليها، وتتأثر بكلّ ما يعبر في الطريق من متغيّرات تثير الفضول، وتستمر الروابط بالتشكّل والتطوّر حتى يصل بإدراكه حدود المدينة التي أصبحت في إدراكه العام مجموعة من الشوارع بتقاطعاتها، وما يصطف حولها من مبانٍ وعمائر، ومن يسكنها من أناس، وما استقر فيه من كلّ ذلك من ذكرى.
قد تكون هذه هي المدينة في أبسط تعريفاتها، أرض وعمران وسكان، تتسع في علاقاتها رأسياً وأفقياً وفق ما تقتضيه حاجة التفاعل، وإذا ما أسقطنا هذا التعريف في بساطته على غزة، فنحن نصف فقط سطح مدينة تتجذّر طبقاتها في القدم، إلى الألف الرابعة قبل الميلاد. هنا، ستقف قليلاً لتدرك أنك لا تسير على أرض مدينة عادية، وأنّ هنالك أكثر مما تظن، وأعمق مما ترى في ظاهر الأمر، فتحت قدميك تتجذر ثماني طبقات على الأقل، من تاريخ الحضارات العريق التي كان لها ما لها، وعليها ما عليها، في حياة هذه المدينة.
فهنا، تحت قدميك، تستقر طبقات شتى، كانت لساكني هذه المدينة مستقراً ومقاماً، كلٌّ في زمانه وأوانه، الكنعانيون ومَن قبلهم، الفراعنة والهكسوس والفلسطينيون القدامى والآشوريون والبابليون والفرس واليونان والرومان والفاتحون المسلمون ومن بعدِهم العثمانيون، وما طرأ على المدينة من دخلاء الإنكليز والصهاينة.
ولماذا سيكون لمدينة مثل غزة هذه الخصوصية؟ غزة التي ارتبط اسمها بالحرب والتصعيد والهدنة، والتي أرهقتها السياسة والتخريب والحدود الخانقة، ومن خلف تلك السحب القاتمة والبروباغندا الممنهجة لا يزال لهوية المدينة صداها الذي يأخذنا في منبعه إلى الهوية الحقيقية للمدينة من بين أزقتها القديمة. سآخذك إلى مكان سيساعدني على قصّ الحكاية، هنا في ميدان فلسطين أو كما نسميه (الساحة)، مساحة اعتيادية من ضجيج وسط البلد، ضجيج اعتاده أهل المدينة وأحبّوه حتى ساعات متأخرة من المساء. ولمن يعرف غزة تمام المعرفة، يكون هذا الضجيج دليلاً على أنّ "الدنيا لسّا بخير". ما المختلف هنا إذن؟ إنك تقف تماماً على أعتاب البلدة القديمة والنواة التي منها انبثقت وتشكلت غزة التي نراها اليوم.
العارف بالأسواق الشعبية يستطيع التقاط صوت المدينة ورائحتها من بين الدكاكين، فللمدن أصوات وروائح تميّزها عن غيرها لو تعلم!
هذا شارع عمر المختار أحد أهم الشوارع الشريانية الرئيسية الذي يصل مركز المدينة القديم غرباً بشريط الساحل، والذي، ما إن نسير قليلاً فيه حتى نرى أمامنا واحداً من أهم الأسواق الشعبية، حيث تصطف الدكاكين، العتيق منها والجديد، على امتداد هذا الشارع، والعارف بالأسواق الشعبية يستطيع التقاط صوت المدينة ورائحتها من بين الدكاكين، فللمدن أصوات وروائح تميّزها عن غيرها لو تعلم!
في تمام السابعة والنصف من صباح يوم الأحد تستطيع سماع أجراس كنيسة القديس برفيريوس من هذا الميدان، وتتزامن مع هذا الصوت روائح الكعك الطازج على العربات المارة، وتلاوة القرآن من مذياع دكان قريب يستفتح يومه ببركة الصلاة على النبي وتلاوة مسجلة للقارئ "الحصري".. ويبدأ الباعة بعرض بضاعتهم على حافة الأرصفة: النعنع، الجرجير البلدي، البقدونس، الفجل... وعلى الناصية تاجر العملة ينادي "دولار دولار.. دينار دينار..".
تفتح المحال التجارية جميعها في ذات الساعة، وسيكون من المقلق لو حلّت الساعة التاسعة على أحد الدكاكين وهي مغلقة، تكون هذه إشارة على أنّ شيئاً ما ليس على ما يرام، ويظلّ السوق في حركة دائرة دائبة، كلّ يسعى فيها إلى ما قُسم له.
أياً كان الذي عرفته عن غزة من دماء مسفوكة وحروب متتالية، لا يزال هناك جانب يحيا في المدينة وفينا، سيخبرك الكثير عن تاريخه وانتصاراته وأمجاده
عند الظهيرة يصدح الأذان من جوامع البلدة القديمة بذات النداء، مئذنة الجامع العمري الكبير، وجامع كاتب ولاية، ومسجد السيد هاشم، ومسجد الشمعة، ومآذن كثيرة تشهد لأهل المدينة بصلاحهم. ستأخذك خطواتك إلى حرم المسجد العمري الكبير حيث تتسارع الأقدام والخطوات لإدراك الصلاة، وهناك تحت الأقبية، وعلى شاهدة من الزخارف والنقوش الحجرية، ومن بين الأعمدة الكورنثية تصطف جموع المصلين. ودائماً ما ينتظر المصلين بعد خروجهم باعة يتوقون لبيع ما لديهم، أصناف من محاصيل طازجة عالية الجودة فينادي الباعة "بندورة كيلو ب.. خيار كيلو..". ولو سرت قليلاً في سوق الزاوية، ستأخذك روائح التوابل والعطارة إلى زمن القوافل وطرق التجارة في قديم الزمان، توارث أهل المدينة هذه الدكاكين أباً عن جد، هكذا ظلّت بعض الحرف التقليدية عامرة في تلك الدكاكين، وعلى وجوه الباعة المُعمّرين الجالسين أمام الدكاكين، ترى فعل الزمان الذي صيّر شاباً في ثورة ربيع عمره إلى كهل تضج عيناه بالكثير ليُحكى.
على مقربة من الجامع العمري زاوية تشغلها عربة لبيع الخروب، وهو عصير تقليدي يبعث البرودة في النفس في عزّ الصيف. أكاد أجزم أنّ العربة نفسها لم تتغيّر منذ أكثر من عشرين سنة. وفي هذا الموسم يزدحم سوق القيسارية بأهل المدينة خاصة، لأنها الفرصة الأنسب لبيع الذهب، فعلى طول الرواق تصطف الحوانيت الصغيرة التي تعدّى عمرها 690 عاماً، منذ أن أقيمت في عهد السلطان المملوكي محمد بن قلاوون، ثم نتجه شمالاً، نقصد بخطواتنا متحف قصر الباشا، حيث عبر نابليون بونابرت بجبروته مهزوماً من محاولته احتلال مدينة عكا بعد أن أقام في القصر بضع ليالٍ قبل أن يعود لاستكمال حملته في مصر. وسترى وعلى امتداد طابقين قطعاً أثرية خلّدت قصص العابرين لهذه المدينة من قطع فخارية ومعدنية، سيوف أصيلة وبعض المعدات الحربية وأجزاء من المصاحف التي حملها الرحالة، وهناك سأتركك لتتعمق أكثر في الرحلة.
يا أيها القارئ العزيز: أياً كان الذي عرفته عن غزة من دماء مسفوكة وحروب متتالية، لا يزال هناك جانب يحيا في المدينة وفينا، سيخبرك الكثير عن تاريخه وانتصاراته وأمجاده، لو تعلم.