غزّة.. المناصرة كأسلوب حياة
بعد أكثر من 175 يومًا من الإبادة الجماعية المتواصلة بحق الفلسطينيين في غزّة على أيدي الاحتلال الصهيوأميركي وحلفائه الأشرار، ومع مرور الأيام واستمرار الفظائع بلا هوادة، بدأنا نشهد بعض التراجع في الغضب الشعبي تجاه المذبحة الدائرة، وخبا حماس النشاط والمناصرة والاهتمام الذي اتقدّ في بداية المأساة، وبدأ بعض الأفراد النُّشطاء يشعرون بالإحباط وبعدم جدوى جهودهم، كما سرى نوعٌ من التململِ واعتيادِ المشهد إلى النفوس، وعاد كثيرٌ من الناس إلى حياتهم الطبيعية متجاهلين المأساة تمامًا، وكأنّ المذبحة التي تجري على مرمى حجر ما عادت في كونهم، وساعد في ذلك ارتفاع مستوى قمع بعض الأنظمة ومحاولتها التغطية والتشويش على أيّ نشاط حقيقي يمكنه المساهمة في إيقافِ المذبحة.
فبعد ستة أشهر زاد ثقل الاهتمام بالمأساة والدفاع عن المظلومين، ولكم أن تتخيّلوا إن كان هذا حال من يتابع من الخارج، فكيف هي حال من يعيش يوميًّا تحت وطأة القتل، والنزوح، والحصار، والجوع؟ وفي حين أنّه من المهم، بلا شك، للأفراد أن يعيشوا حياة طبيعية ويستمتعوا بها، فمن المهم بالقدر نفسه أن ندرك الترابط بين حياتنا والمسؤولية التي نتحمّلها تجاه بعضنا البعض كبشر. ففي سعينا الدؤوب لتحقيق السعادة والراحة الشخصية، لا نستطيع أن نغضَّ الطرف عن معاناة الآخرين، أو نصبح غير مبالين بالظلم والقمع والقهر الذي يتعرّض له إخوتنا، الظلم الذي يمكن بكلّ سهولة أن نكون نحن ضحاياه غدًا. وبدلًا من ذلك، ينبغي لنا أن نسعى جاهدين لتحقيقِ التوازن بين الاهتمام بأنفسنا والقيام بمسؤولياتنا الإنسانية، مع إدراك أنّ تكريس جزء من جهودنا ومواردنا لدعم القضايا العادلة، وما أكثرها في منطقتنا، قد يثري حياتنا بطرق لا نتخيّلها، فنحن فعليًّا نساعد أنفسنا قبل مساعدةِ الآخرين.
ومع ذلك، فإنّ الحقيقة المحبطة نوعًا ما، أنّ الحماسة الأولية التي يبديها كثير منا في بدايات الأزمات لا تلبث أن تتبدّد مفسحةً المجال أمام التذمر واللامبالاة، ويتضاءل الاهتمام بالضرورة الملحة لدعم القضية مع طول أمدها، متناسين في حالة غزّة أنّ عذابات الفلسطينيين لم تبدأ منذ ستة أشهر بل منذ أكثر من 75 سنة، وأنّ الصراع يحتاج لنفسٍ طويل. ومع ذلك، وسط هذا الواقع المظلم، بتنا نرى بعض الضوء في نهاية النفق من خلال الإدراك المتنامي من قبل فئة كبيرة من الشباب بضرورة اعتناق المسؤولية الاجتماعية والسياسية كأسلوب حياة، عوضًا عن الدفقات العاطفية المفرطة، والمتفرقة، وغير المستمرة، والتي لا يُبنى عليها أفعال مستدامة، فلقد بات الشباب أكثر وعيًا بأنّ النضال من أجل العدالة يتطلب التزامًا مستدامًا وثابتًا من الأفراد قبل المؤسسات. التزام يتوقف فيه النشاط الاجتماعي والسياسي عن كونه مجرّد فعل استثنائي محدّد زمنيًّا؛ ليصبح جزءًا لا يتجزّأ من هوية الفرد وروحه وأسلوب حياته.
ينبغي أن نسعى جاهدين لتحقيق التوازن بين الاهتمام بأنفسنا والقيام بمسؤولياتنا الإنسانية
وفي حالتنا تكمن الخطوة الأولى نحو إحداث تغيير دائم في الاعتراف بخطورةِ الوضع، وأنّ محنة غزّة وفلسطين عمومًا ليست أزمة عابرة، بل هي تتويج لعقودٍ من الاحتلال والقمع والعنف. إنّ فهم هذا التاريخ الطويل من الظلم، وإدراك أنّه حتى بتوقف العدوان أمامنا سنوات من العمل من أجل أن يستعيد أهل غزّة حياتهم، ضروري جدًّا لتعزيز الشعور بضرورة العمل الدائم في سبيل القضية، وأنّ المعركة من أجل حرية فلسطين تمتد إلى ما هو أبعد من العوالم الجيوسياسية، بل إنّها ضرورة إنسانية، تؤكد أنّ آلاف الأرواح التي أزهقت، والملايين التي شردت، والمعاناة التي ما زال يتحملها الفلسطينيون وسيتحملونها لسنوات بعد وقف العدوان، لا تتطلب أقلّ من التضامن والعمل الثابت المستمر من أجل نصرة المظلومين.
ولكن كيف يمكننا تحويل هذا النشاط المتقطّع إلى التزامٍ طويل؟ يكمن الجواب في دمجِ المناصرة في حياتنا اليومية، وجعلها جزءاً من أسلوب حياتنا. حيث تكمن البداية في إبقاء أنفسنا على اطلاع بما يدور حولنا، وعلى القضايا التاريخية والناشئة، وتثقيف أنفسنا حولها، ومن ثم العمل على توعية وتثقيف الآخرين في محيطنا.
النضال من أجل العدالة يتطلب التزامًا مستدامًا وثابتًا من الأفراد قبل المؤسسات
يتبع ذلك تعويد أنفسنا على المشاركة في الفعاليات والأنشطة المخصّصة للدفاع عن القضايا العادلة، أكان في العالم الحقيقي أو الافتراضي، من خلال مختلف الأدوات المتاحة كالتطوّع، والتبرّع، والمشاركة في حملات المقاطعة، والتظاهرات، والمسيرات، والوقفات، والمناظرات، والعواصف الإلكترونية، وتوقيع العرائض، وصناعة المحتوى، والكتابة حتى لو كان ذلك بكتابة منشور واحد قصير يوميًّا على وسائل التواصل الاجتماعي. فمهما بدت مساهمتك بسيطة، فإنك تساهم في حركة أوسع من أجل التغيير. قد يبدو الأمر غامرًا ومرهقًا، ولكن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، والمطلوب إيجاد التوازن في حياتنا لجعل المناصرة جزءًا لا يتجزأ منها، فليس المطلوب منّا أن نتحوّل لنشطاء بدوام كامل، كلّ المطلوب أن نعمل ما نستطيع دون توّقف، وأن نذكر ونشجّع بعضنا البعض على الاستمرار.
في نهاية المطاف، لا تخلو هذه الرحلة نحو التفاعل المستمر مع القضايا ونصرتها من التحديات. بالتأكيد ستكون هناك لحظات من خيبة الأمل والتضحيات والنكسات والإحباط والتعب، وحتى فترات من الانقطاع. ومع ذلك، فإنّ التزامنا بإنسانيتنا يجري اختباره حاليًا، فإن لم نظهره خلال أوقات الشدّة هذه على وجه التحديد، فمتى سنظهره؟