غزّة.. بين الشعوب العربية وأنظمتها
نظير الكندوري
كثيرًا ما يتم توجيه الاتهام إلى الشعوب العربيّة بالتقاعس والتخاذل والانشغال عمّا يجري لإخوتهم في قطاع غزّة، ويسوّق مروّجو هذه الاتهامات العشرات من الأمثلة التي تدُل على صدق وصوابيّة حُكمهم. لكن إذا ما نظرنا إلى الأمور بعين الإنصاف، وبعيدًا عن الانسياقِ إلى العواطف التي لا تتوافق مع الحقائق، فإنّ المراقب لمُجريات الأمور يرى أنّ شعوبنا العربيّة لا تمّت بصلة إلى مواقف أنظمتها التي تحكمها، والخلط بين الموقفين سيجعلنا لا ندرك حقيقة توجّهات هذه الشعوب تجاه قضاياها المصيرية، فالمتبصّر بواقع الحال بعمقٍ كافٍ سيدرك أنّ الأنظمة العربيّة تعيش في وادٍ وشعوبنا العربيّة بوادٍ آخر.
وعلى هذا الأساس، إنّ ما نراه من مظاهر مُبتذلة في العواصم العربيّة، كحفلاتِ الرقص الماجن والكرنفالات الراقصة، تترافق مع غزارةِ الدماء التي تُراق في غزّة، هو مفارقة غير موجودة إلّا في إعلام هذه الأنظمة الرسمي، والذي يتعمّد إظهار هذه المفارقة التي لا تعكس واقع الحال عند شعوبنا العربيّة. ويتعمّد كثير من الحكومات العربية، إقامة المهرجانات والاحتفالات وتُسخّر جميع وسائل الإعلام لتغطيتها إعلاميًا، على حساب تغطية الحرب القائمة في غزّة إعلاميًا. وهدفها من ذلك هو محاولة إلهاء الجماهير عما يجري في غزّة، وصرف أنظار شعوبها عن تلك الأحداث، وتهميش الأحداث الجسام في غزّة والتقليل من شأنها. ومن جانبٍ آخر، إعطاء فكرة لدول العالم الكبرى مثل الولايات المتحدة وغيرها من الدول الأوروبية الداعمة لإسرائيل، من أنّ الشعوب العربية وأنظمتها لا تُعير أيّ اهتمامٍ لمصيرِ الفلسطينيين أو للجرائم التي تُرتكب بحقهم، تبتغي من ذلك نيل رضا الدول الكبرى لتبقيها على رأس أنظمتها في دولها.
وما نراه من تفاعلٍ من بعض المغيَّبين من شعوبنا العربيّة مع البطولات الرياضيّة والانغماس في الحماسة لهذا الفريق أو ذلك، فربّما يعود السبب في ذلك إلى أنّ الشعوب العربيّة تجد أن هذا المجال هو الوحيد الذي تسمح به الأنظمة لها لإبداء تفاعلها والتعبير عن رأيها فيه، لأنّ كلّ ما سوى ذلك ممنوع، ويمكن أن يُوصل صاحبه إلى الاعتقال أو السجن، وإلى تغييب حياته أيضًا. ولأجل زيادة عدد المغيّبين وزيادة تفاعلهم مع هذه الأنشطة التافهة، يقوم الإعلام الحكومي والمؤثّرين في السوشيال ميديا المحسوبين على الأنظمة العربيّة، بإذكاء العصبيّة القطريّة، وإشاعة البغضاء بين أنصار الفرق الوطنيّة التابعة للدول العربيّة، حتى يلغوا من عقولهم مفهوم الأمّة، وينسفوا حقيقة أنّ جميع هذه الأقطار ما هي إلا جزء من أمّةٍ كبيرة يجب أن تهتم بقضاياها المهمّة والمصيرية.
أكثر ما يخشاه نتنياهو وهو منهمك بارتكاب المجازر في غزّة، هو صحوة الشعوب العربيّة وتفجير غضبها ضدّ ما يحدث في غزّة
وإلى من يستغرب حالة الهدوء التي تتسم بها شعوبنا العربيّة، نقول إنّ هذا الهدوء لو كان حقيقيًا، فإنّ أوّل من سيكون مسرورًا به هو "النتن ياهو" وحكومته المتطرّفة. فقد قال هذا الرجل في يومٍ من الأيّام، تعليقًا على التطبيع مع الدول العربية: "إن الزعماء العرب ليسوا عائقا أمام توسيع علاقات إسرائيل مع جيرانها". وأضاف في كلمةٍ له ألقاها أمام الكنيست الإسرائيلي، أنّ "الحاجز الذي تصطدم به إسرائيل وتخشاه دائما هو الشعوب العربية والرأي العام العربي". وبالتالي، فإنّ أكثر ما يخشاه نتنياهو وهو منهمك بارتكاب المجازر في غزّة، هو صحوة الشعوب العربيّة وتفجير غضبها ضدّ ما يحدث في غزّة. ولكن مع ذلك، نراهُ يشعر بالاطمئنان، لأنّ هذه الشعوب لن تثور أو تتفجّر غضبًا وهي ترزح تحت هذه الأنظمة، والتي هي إمّا مطبّعة، أو أنظمة تُؤثر السلامة وعدم التورّط بمشاكل مع دولةٍ مثل إسرائيل. وهو مطمئن كذلك، لأنّ هذه الشعوب تفتقر إلى القيادات الشعبية الفاعلة، والتي تستطيع توحيد صفوفها وقيادتها للتصدّي لقضاياها المصيرية.
وغيابُ هذه القيادات الجماهيرية ناتج عن التعاون المذهل بين إسرائيل والأنظمة العربية، واتخاذها أخبث الطرق البوليسيّة لتغييب هذه القيادات، بغية السيطرة على الشعوب العربيّة، سواء من خلال زجّ الناشطين والقياديين في غياهب السجون أو تصفيتهم جسديًا لتبقى الشعوب كالقطيع لا تجتمع على هدفٍ واحد أو مشروعٍ واحد.
غيابُ القيادات الجماهيرية عربيًا ناتجٌ عن التعاون المذهل بين إسرائيل والأنظمة العربية
لكن علينا الاستدراك من أنّ هذه الحالة التي تعيشها شعوبنا العربية من تكميم للأفواه وعدم السماح لها بالتعبير عن تضامنها مع ما يحدث في غزّة ولأهلها، أو التضامن مع أيّة بقعةٍ في أمّتنا العربية والإسلامية، تتعرّض لِما يشبه ما تتعرّض له غزّة، إذ ستؤدّي هذه الحالة بكلِّ تأكيدٍ إلى الانفجار، وربّما يكون انفجارًا متهوّرًا بدون قيادة أو تخطيط، ومثل هذا الانفجار لا بدّ وأن يكون مدمّرًا، ليس فقط للأنظمة، إنّما للأوطان أيضًا، وهذا ما حدث في بعض دولنا العربيّة.
والشيء الذي يدلّ على غباء الأنظمة العربيّة هو أنّك تراها تعيش حالة من السعادة والنشوة، وهي ترى شعوبها ساكتة مُطيعة لا تنبس ببنت شفة على ما تقوم به، وهي لا تعلم أنّ هذا السكوت في الغالب سيعقبه انفجار غير مُنظّم تكون مآلاته وخيمة على الجميع، سواء على الأنظمة أو الشعوب أو الأوطان، وهو أمر في غاية الخطورة لا تلتفت إليه الأنظمة العربية، لأنّها قلّما تشعر بالمسؤولية تجاه شعوبها وأوطانها.
وعلى هذا الأساس، ليس من الإنصاف القول إنّ مواقف الشعوب العربية تتوافق مع مواقف الأنظمة العربية المتخاذلة، بل وفيه إجحاف كبير بحقّ شعوبنا، وما نراه في وسائل الإعلام أو السوشيال ميديا من مظاهر متخاذلة يعكس حالة شاذة تُوهمنا به الأنظمة العربية، بأنّ موقف شعوبها متناغم مع تخاذل النظام الرسمي العربي، وهي بذلك تحاول تزييف إرادة شعوبها، وتعطي فكرة خاطئة للآخرين، بأنّها موافقة على ما تتخذه من سياساتٍ متخاذلة، وهو لعب بالنار، ولا بدّ أن يأتي اليوم الذي ستثور فيه هذه الشعوب على أنظمتها.