فجر نابلس الحزين
حُمل على الأكف جريحاً ودمه يسيل إثر إصابته برصاص الغدر وهو مشتبك مع الجنود الصهاينة، وبين أزقة المشفى والمدينة تعالت الصرخات "لا ترتحل" ليذاع نبأ استشهاده ملتحقاً بركب من ارتقوا فجر 25 أكتوبر/ تشرين الأول، وأنفاس الشبان تتقطع غضباً لوداعه، وتنادي عليه "لا تترك العرين يا أسدها يا وديع الحوح"؛ لينتفض قلبه ويعود النبض لدقائق بمعجزة إلهية ومن ثم يقولون إنه استشهد، لتعلن دقات قلبه ثورة على الموت مرة أخرى، فيستيقظ والمقاومون يطلقون الرصاص فرحاً بعودته، وجموع الشبان يتجمهرون على قارعة الطريق صفاً كالبنيان المرصوص، ويرفعون أياديهم يتوسلون إلى اللّه "يا رب يا رب اجعل الأسد يعود لعرينه سالماً..".
وحينها كانت عرين الأرض تشد أسدها، وديعها، نحوها، ورفاقه في السماء هم الآخرون يشدونه لقرابة 30 دقيقة في فجر تقشعر له الأبدان، المآذن ترثي الشهداء الثلاثة حمدي شرف وعلي عنتر وحمدي القيم، وتدعو لوديع، وحتى وسائل التواصل سخرها الشبان للدعاء لوديع، وشوارع المدينة أغلقت، وصوت الشبان أخذ يعلو ويعلو، ونابلس تصرخ "لا ترتحل"، فهي لم تعد تحتمل نار الفقد أكثر، ليشكلوا جميعهم أداة ضغط على وديع، وفعلاً أخذ يستجيب لهم وقلبه تارة ينبض لهم، وتارة أخرى للقاء رفاقه في السماء، وهكذا مضت تلك الدقائق الأليمة، وسط تسريب مقاطع مرئية له من داخل المستشفى، لتكن هي الطاغية والمشهد الأول والأعظم.
عيناه كانتا تغمضان ومن ثم تتفتحان كوردة لا مثيل لها تسحر الخلق بجمالها، وابتسامته بها قوة ووعد بانتقام ولقاء، وحتى أجهزة العناية المركزة دخلت هي الأخرى على الخط وأرادت أن تقول كلمتها "لا ترتحل".
وأنا هنا بعيدة عن ثرى الوطن أقف عاجزة أمام فجر حزين كهذا
إبان ذلك كان وديع يودّع أمانته على الأرض بصون العرين والوطن، فتامر (الكيلاني) لم يكف هو الآخر عن ندائه، لتكن الأرواح هنا حقاً جنوداً مجندة، فقبل اقتحام العدو الغدار لجبل النار بساعات، نشر وديع آخر صورة على قصته في حسابه عبر مواقع التواصل، للشهيد تامر الكيلاني بعد ساعات من عتابه له، إذ كانا قد اتفقا على أن يصعدا لرفاقهما سوياً، ولم ينتظره تامر الذي ارتقى جراء عملية اغتيال جبانة نفذها المحتل وعملاؤه. الخطب الجلل جعل وديع يزأر من عرينه ليلحق بتامر، لكن بعد انتزاع الثأر، فقبل يومين فقط خطّ: "أنا لن أرثيك ولكن سيكون الثأر قاسياً، سبقتني يا خوي وكنا متفقين نروح مع بعض"، وختم تاركاً له موعداً للقاء محدد المكان ومجهول الزمان "طلبت الشهادة ونلتها ولنا لقاء في جنان النعيم".
ليكن زمان اللقاء هذا أقرب مما تصورنا، فبينما كانوا على الأرض يصرخون لعودته، كان تامر يمسك بيده ليصعد وديع خطوة تلو الأخرى للسماء، ليحيا كما يشاء في فجر نال فيه ما أراد، واكتمل فرحه كما الشجن في نابلس، فجبال النار تكتوي بنار الفراق ويخمدها أسود العرين وهم يقسمون بانتزاع الثأر..
بساعات معدودة ودعت نابلس 4 أقمار، وهي تنتظر شفاء أكثر من 20 جريحاً، والأسود تزأر ولم يقدر عليها الاحتلال، لا باقتحام وعدوان ولا بـ"قوات خاصة" ومدافع وآليات عسكرية وقناصين، ولا حتى بحصار، فكل قطرة دم في تلك البلاد تولد أبطالاً جدداً ليسقطوا جنود هذا العدو.
في أثناء كتابة هذه التدوينة كان وديع الأسود والقائد في العرين يجوب جبال النار، ورصاص المقاومين يزف الشهيد محمولاً للقاء رفاقه، وكلمات الرثاء تنهال بشجن، أحدهم يقول "حتى باستشهادك جننتهم وأرعبتهم، ربما كانت عودة مؤقتة لتقول لنا سلام عليكم حتى مطلع الفجر" ليرد آخر "كان لي شرف بتقبيل قدميك يا شهيد وباللّه ما قبلت الجسد، بل قبلت الروح".
وأنا هنا بعيدة عن ثرى الوطن أقف عاجزة أمام فجر حزين كهذا، وعيناي كالمعتاد تضيقان بها الدموع وهي تذرف حين يرحل الأبطال والشمس لم تشرق بعد، وإن أشرقت لن يبصرها القلب الغارق في ظلمة تشتد في أعقاب جراح تفتك به، وحتى الأوراق تنفذ لو اجتمعت رزم منها أمامي، فهي لن تكفي لوصف أسود صعدوا إلى السماء أقماراً، وحبر القلم جف من النحيب والدمع يفيض عقب اغتيال كل أمل في التحرير!.