فريكة أجيراً عند الآغا

09 ابريل 2017
+ الخط -
انتهى محمد علي فريكة من خدمة العلم وعاد إلى القرية وهو لا يحمل أية شهادة علمية أو مهنة يعيش منها، وسرعان ما وجد نفسه يدور في الأزقة منذ الصباح الباكر وحتى آخر الليل وكأنه موظف أساسي في شركة اللف والدوران العربية المتحدة. وفي الأيام الأولى من عودته إلى القرية، أصبح حقل تجارب لمن يساوي ثمنُه فرنكاً ومَن لا يساوي ثمنُه فرنكين، فكل من كان يلتقيه يستوقفه ويعطيه محاضرة طويلة عن قيمة العمل، وفوائد العمل، وشرف العمل، وسوء البطالة، وحقارة البطالة العادية والمقنعة... حتى إن أحدهم قال له:

- يا عمي، القيمة اليوم للعملة، إذا كان معك مئة ليرة تسوى مئة ليرة، وإذا ما معك فأنت لا تسوى شيئاً!

فحلف له محمد علي يميناً بالطلاق الثلاثي من المرأة التي سيتزوجها في المستقبل، على أنه من يوم أن وعى على الحياة لم تجتمع في جيبه مئة ليرة، ولولا أنهم في العسكرية يُطعمون الجندي ويسقونه ويعطونه ثياباً وصابوناً للغسيل وخرجية للجيب لكان انفضح عرضُه على سكة حلب

المهم يا سيدي، سئل المسمار: لماذا تدخل في الحائط؟ فقال: من كثرة الضرب على رأسي بالمطارق! ومحمد علي فريكة، حينما ازداد ضرب المطارق على رأسه بشأن العمل حلف يميناً آخر على أنه سيشتغل أجيراً مرابعاً عند أحد الملاكين الزراعيين! ووصل القول بالفعل، إذ غادر قريته إلى قرية أخرى، وعلى الفور ذهب إلى مضافة الآغا، وقابله، واتفق معه على أن يشتغل عنده. والآغا كان كريماً معه، إذ خصص له راتباً جيداً، وغرفة مرتفعة عن الأرض "علية" ليعيش فيها.

ذكر لي محمد علي أن كل شيء في عمله الجديد عند الآغا كان هيناً وسلساً وخالياً من المشاكل، وبالنسبة إلى التعب الجسدي فإنه لم يكن يأخذه بالاعتبار، فمهما تعب الإنسان، بمجرد ما يضع رأسه على المخدة وينام يزول التعب ويستيقظ في اليوم التالي نشيطاً وحَرِكاً مثل كلب صيد عَبَرَ أمامَه أرنبٌ سمين! وتنهد وقال: 

- ولكن الشيء الوحيد الذي لم أحسب حسابه هو وجود مجموعة من النساء الأرامل اعتدن أن يجلسن بجوار حائط العليّة التي خُصصت لنومي، ويتبادلن الحديث عن المشاكل والهموم، وكأن القدر أرسلهن إلي ليمنعن النوم عن جسدي المتعب وعينيَّ الحمراوين.

قلت: هل لي أن أعرف شيئاً عن نوعية هذه المشاكل والهموم؟

قال: سأضرب لك مثلاً. سمعت واحدة منهن تدعى "أم برهو" تقول للأخريات: يا ستات، المرأة التي ليس لها حظ لا داعي لأن تتعب وتشقى. أنتن تعرفن كنتي فوزية. يوم خطبتُها لابني كانت عاقلة وغشيمة مثل الغنمة. وبعدما تزوجها ابني، اتضح أنها عقربة بإبرتين وحية برأسين. وابني الذي كان يستيقظ صباحاً ويسارع إلى تقبيل يديَّ حتى المرفقين، صار يمر بجواري ولا يقول لي "صباح الخير"، ومع الأيام صار يفجر بحقي، إكراماً لزوجته، ويُسمعني كلاماً تخجل الواحدة من ذكره.  

فردت عليها أم سمعو: 

- صدقيني يا أم برهو كنتك لا تصلح لأن تكون نقطة في بحر كنتي مريم. وأنا حتى الآن مستغربة كيف يسكت عنها ابني اسماعيل. تصوري، حينما كان أعزب كان يغضب من الريح إذا هبت على البيت وأصدرتْ صوتاً، وأنا كنت أحيط البيت بالصمت إلى درجة أنك تسمعين رنة الإبرة إذا وقعت على الأرض. البارحة ضبطتُها وهي تدق بالهاون على بعد نصف متر من رأسه وهو نائم، ولأنني طلبت منها أن تؤجل الدق بالهاون إلى بعد خروجه من البيت عملت لي وصلة ردح وتوبيخ على طولي وعرضي، وحينما استيقظ ابني المحترم، وبدلاً من أن يوبخها لقاء فعلتها الشنيعة، التفت إلي وقال:

- الله يخليكي يا أمي اتركي مريم بحالها!

قال محمد علي: مضت ثلاث ليالٍ وأنا لا أستطيع أن أنام بسبب هذه الحكايات التي تدور حول طيبة قلب الحماية، ورذالة الكنة، ووقوف الابن إلى صفها، فما كان مني إلا أن حملت بردعة الحمار وقذفتها فوق النساء، وبالمصادفة علق طرف البردعة برقبتي فسقطتُ أنا والبردعة فوقهن!       

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سيرة مسلسلة - يتبع

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...