فلسطين... اعذرينا نحن عاجزون
أرجعتني مشاهد القتل والدمار التي أراها في غزّة اليوم سنوات إلى الوراء، إلى تلك الفترة التي كان فيها الموت هاجس السوريين المرعب. فعدت من جديد إلى النبش في ذاكرتي، لأكتشف أنّ أشياء فظيعة حدثت، أشياء كنت مصمّمة ألّا أنساها مهما حدث، ولكن يبدو أنّي نسيتها، أو على الأقل هي من بدأت بالانسحاب من حياتي، أو ربّما هي موجودة دائماً، لكنّني فقط، وببساطة، اعتدتها، فلم أعد أشعر بالأسى تجاهها.
الموت، شئنا أم أبينا، صار في نهاية المطاف جزءاً من حياتنا، والحقيقة المرّة ورغم قسوتها تبدو واضحة وضوح الشمس، نحن البشر قادرون على اعتياد كلّ شيء، والتأقلم مع كلّ شيء، حتى مع الظلم، والقهر، والموت، والذل، والخنوع، والقتل. ببساطة يصبح الألم جزءاً من حياتنا، فنبدأ باختراع الحيل لاعتياده ولتقبّل الموت والخسائر، كأيّ حدث آخر.
ريشة في الهواء
هل نحتاج فعلاً أن نسجّل موقفاً ما، هل نحتاج أن نثبت تعاطفنا بجمل شاعرية، وعبارات رنانة، وخطب طويلة، والأهم من ذلك كلّه، لماذا نفعل هذا؟ ونحن مدركون تماماً أنّنا في الحقيقة عاجزون عن تغيير أيّ شيء، أو إحداث أي فرق مهما كان بسيطاً. ربّما ما نفعله، نفعله لأنفسنا فقط، لنخفّف إحساسنا بالعار، ولنهوّن علينا، علمًا أنّ مشكلتنا الأساسية مع وجودنا نفسه، ومع حقيقة أنّنا لسنا أكثر من كائنات هشة وضعيفة، لا تتوّقف عن التساؤل عن جدوى وجودها، عن جدوى كلّ هذا الخراب الذي لم نتوقف يوماً عن التناوب على صنعه.
نحن البشر قادرون على اعتياد كلّ شيء، والتأقلم مع كلّ شيء، حتى مع الظلم، والقهر، والموت، والذل، والخنوع، والقتل
علّق أحد الشباب الفلسطينيين على منشور على إحدى الصفحات العربية يدعو لفتح الحدود مع فلسطين، لتتمكن الشعوب العربية من دخول فلسطين ومساندة الشعب الفلسطيني ومشاركته الحرب ضد الكيان الصهيوني: "الشعب العربي لي ما ترك دولة بالعالم، ما دخلها تهريب، بيدخلش فلسطين إلا بجواز سفر"، ببساطة هذه هي الحقيقة التي نحاول إبعاد أعيننا عنها، نحن نحتاج أن نتعاطف لنثبت إنسانيتنا، لنلمّع صورتنا أمام أنفسنا أولاً، وأمام الآخرين ثانياً، لكن من هم المستعدون الحقيقيون لتقاسم الصواريخ مع الفلسطينيين؟ من هم المستعدون الحقيقيون، لإحداث طوفان بشري على الحدود الفلسطينية؟ من هم الجاهزون لترك حياتهم في هذه اللحظة، وفعل شيء أخر غير التعاطف؟
ربما قد أبدو فظة ومجحفة، لكنّنا، وباعتقادي، جميعاً مزيّفون، ومن يأكل العصي ليس كمن يعدها.
نحن محكومون بالوجود
لا أذكر كم مرّة وقفت أمام مرآتي وقرّرت إنهاء حياتي، وكم مرّة قلت إنّي فقدت قدرتي على تحمّل كلّ هذه القسوة الموجودة في العالم، وكم مرّة رأيت جثث الأطفال في مناماتي مكوّمة على باب منزلي، وكم مرّة شعرت بأنّي على حافة الجنون، وبأنّي لم أعد قادرة على العيش في عالم، تُغتصب فيه طفلة بعمر ثماني سنوات مرّات ومرّات، وتنجو من الموت، وكأنّها تنجو فقط، لتخبرنا قصتها، وكأنّها قصة شخص آخر، لتلخص لنا الجحيم الذي نعيش فيه، ولتطلق دون أن تدري، أكثر النكات قسوة في التاريخ: أنتم رغم هذا كله ستبقون على قيد الحياة، أنتم موجودون، ومستمرون بالعيش. وكم هذا مخجل!
مشكلتنا الأساسية مع وجودنا نفسه، ومع حقيقة أنّنا لسنا أكثر من كائنات هشة وضعيفة، لا تتوّقف عن التساؤل عن جدوى وجودها، عن جدوى كلّ الخراب الذي لم نتوقف يوماً عن التناوب على صنعه
أكاد لا أنسى تلك اللحظة التي وقفت بها وصديقتي أمام البحر مباشرة، وبدأنا بالصراخ، كانت الحرب على أشدّها، وكنّا فقط نحاول رفض ما يجري، رفض الانضمام إلى خانة المتأقلمين والمعتادين. لكن ماذا حدث بعد ذلك، لا شيء، لا أدري كيف صرنا الآن نقف في الصف الأوّل، نرش على الموت سكّراً، وكأنّ شيئاً لم يحدث. نعيش، وكأنّنا لم نر رقاب أصدقائنا تُقطع في بثّ مباشر، وكأنّنا لا نحدّق يومياً في عيون أقربائنا الذين تحوّلوا لصور معلّقة على أعمدة الكهرباء وأسوار الحدائق، وكأنّنا لم نشاهد أطفالنا يموتون جوعاً وبرداً في المخيمات، وكأنّ البحر لم يلتهم الآلاف منّا. "الحياة بدها تستمر" نردّد هذه العبارة كتعويذة سحرية لنستيقظ كلّ يوم، ونغسل وجوهنا، ننظف أسناننا، نفكر بطبخة اليوم، ونخرج، نخرج إلى الحياة.
المأساة الموجودة هي التي نراها..
كتبت إحدى صديقاتي على فيسبوك بعد الزلزال الذي ضرب سورية: "من حق كل إنسان أن يفرح ويحزن كما يشاء، ومن حقه أن يتعاطف أو لا، ومن حقه أن يعبر عن حزنه كما يشاء. في كل لحظة تمر على هذا الكوكب هناك مأساة تحدث، رغم ذلك أنتم لستم متعاطفين، لأنكم تتجاهلون، تركزون على المآسي الجماعية، إذاً أنتم منافقون، في كل ثانية، هناك جوع في مكان ما على الأرض، هناك موت، دمار، قتل، اغتصاب، اعتقال، مجازر، قصف، ذبح على أساس الدين والعرق، لماذا لا تقاطعون الحياة إذاً؟".
عندما قرأت منشورها لم يكن قد مضى عشر دقائق على دخولي إلى المنزل أنا وأطفالي المرتجفين من البرد والفزع، بعد إمضائنا أكثر من نصف ساعة في الشارع وتحت المطر بسبب الهزّات الارتدادية. لا أنكر أنّ منشورها استفزني في البداية، لكن، بعد أن وضعت مشاعري جانباً، اكتشفت أنّ كلامها حقيقي جداً، وأنّ نوبة التعاطف هذه ستتلاشى بعد مدّة، وسيرجع الجميع إلى حياتهم. رغم أن لا شيء سيتغيّر، سيبقى المشردون مشردين، والبيوت التي تهدمت لن ترجع، ومن مات لن يعود، لكن نحن من ينسى، من يضع على الرف ما يؤذيه في نهاية الأمر. إذاً، فنحن لا نختلف كثيراً عنها، ما يميّزها عنّا فقط أنها وصلت مباشرة إلى النتيجة، النتيجة التي تتلخص بجملة واحدة فقط، نحن متورطون بالوجود.
بعد مدّة قد تطول وقد تقصر، سيبلّ الشعب الفلسطيني مشاعرنا وتعاطفنا ومنشوراتنا واستنكارنا وجبننا وخوفنا وضعفنا وعجزنا ويرمي ماءها في وجهنا. بعد مدّة قد تطول وقد تقصر، سنعود لمتابعة آخر صيحات الموضة، وسنتحدث عن الطقس، ونفكر بلون كعكة عيد ميلاد طفلنا، سنشن حروباً بسبب مشهد تقبيل في أحد المسلسلات، وسنقاطع بعضنا بسبب مباراة كرة قدم... ، وبعد مدة قد تطول وقد تقصر، سنُرجع فلسطين وشعبها وحصارها ودمارها ودماءها وأشلاء أطفالها وصرخات أمهاتها وأحلام شبابها إلى مكانها، في أعمق نقطة من ذاكرتنا، ونعود لحياتنا، وكأنّ شيئاً لم يحدث كالعادة.