فيلم نابليون... تألق في الإخراج وضياع في التاريخ
اقترب مبدعو السينما لفترة طويلة من استكشاف شخصية نابليون الصغيرة والعملاقة من زوايا متعددة، حيث قدّم كل واحد منهم رؤية فريدة في تجسيد حياة هذا الشخص التاريخي. ورغم تنوع الطرق المتبعة في هذا السياق، إلا أن جميعها تتلاقى في معركة واحدة، قضية واحدة، وأرض واحدة. لهذا السبب، يُعَدُّ ريدلي سكوت الشخص المثالي للاحتفال بهذه الفرصة الاستثنائية.
سكوت نفسه الذي لا يكل وهو في الخامسة والثمانين من عمره، هو في بعض النواحي انعكاس لشخصية نابليون نفسه، رجل متطرف في طرح المواضيع، صارم وصاحب رؤية ثاقبة، معتاد على تحريك الآلاف من الناس مثل قطع الشطرنج داخل ساحته السينمائية، وبالتأكيد يثير الجدل بشكل ملحوظ. وهذا ما نجح فيه من خلال آخر أفلامه، السيرة الذاتية لأحد أشهر الشخصيات التاريخية، نابليون.
العمل الجديد لريدلي سكوت يركز بشكل أساسي على شخصية رجل الدولة والقائد العسكري الفرنسي نابليون بونابارت، بدءًا من نشأته وصولاً إلى توليه لمنصب الإمبراطور. يتناول الفيلم شخصية نابليون في سياق سيرة ذاتية، ليس فقط من خلال تسليط الضوء على إنجازاته الشخصية، ولكن أيضًا من خلال فحص علاقته بحب حياته، زوجته جوزفين. يستعرض الفيلم المعارك الشهيرة التي شارك فيها نابليون، مبرزًا طموحه اللاحق وعبقريته الاستراتيجية، وكذلك موهبته الفذة كقائد عسكري.
يعتبر فيلم "نابليون" من بين أكثر أعمال ريدلي سكوت طموحًا. تم تصوير الفيلم، الذي يمتد لمدة ساعتين ونصف، في فترة قصيرة جدًا لا تتجاوز 61 يومًا فقط. يقوم ببطولة الفيلم النجم خواكين فينيكس، الذي سبق له العمل مع سكوت في فيلم "غلادياتور".
اعترف المخرج بأنه لم يتردد لحظة في اختيار خواكين لتجسيد دور القائد نابليون، حيث قال: "أنا أنظر إليه وأفكر، هذا الشيطان الصغير هو نابليون، حتى أنه يظهر كما لو كان هو نفسه".
وفقاً لسكوت، فقد كان مهووساً بفكرة هوس نابليون بجوزفين، التي كانت بمثابة نقطة الضعف لدى المحارب الشجاع، لكن القائد العظيم لم يجذب الإمبراطورة المستقبلية إلا بالثروة والقوة.
حاول المخرج التعامل مع تصوير نابليون بشكل واقعي نسبياً، إذ لم يقدمه كشخص عادي بقدر ما أظهره كبطل عصبي واثق من نفسه، وسرعان ما تحول إلى ديكتاتور. سيتمكن المشاهدون من رؤية القائد المخمور بالنجاح في ساحة الحرب، مع مشاهد المعارك التي حاول طاقم الفيلم جعلها قابلة للتصديق قدر الإمكان.
يعتبر فيلم "نابليون" من بين أكثر أعمال ريدلي سكوت طموحًا. تم تصوير الفيلم، الذي يمتد لمدة ساعتين ونصف، في فترة قصيرة جدًا لا تتجاوز 61 يومًا فقط
من الناحية الرسمية، يتناغم فيلم "نابليون" تمامًا مع ملصقه الدعائي. إنه عمل سينمائي ذو طابع ضخم يتميز بجوانبه التقنية، لاسيما مشاهد المعارك الكبيرة التي تم تنفيذها بشكل مثالي لا تشوبها شائبة وتتسم بخلوها من أي عيوب. نسجٌ غنيٌّ بالعواطف في القصة وسردٌ يتدفق بسلاسة وكأنك تتابع تدفق نهر دون منحدرات وخال من عقباته، حيث تتألق الشخصيات وتبرز دوافعها وتفاعلاتها بشكل جميل جداً ومثير للاهتمام.
طاقم الفيلم موهوب ومجتهد، كل حركة للشخصيات داخل الإطار، كل دورة أو إمالة للكاميرا تم تنفيذها دون أدنى خطأ.
أظهر المخرج والمصورون والممثلون جميعاً تفانياً لا يصدق وعملاً منسقاً، مما أثر على القصة التي تجمعها مشاعر نابليون تجاه زوجته جوزفين التي لعبت دورها بشكل رائع الممثلة فانيسا كيربي، فقد أظهرت فانيسا قدرة استثنائية على تصوير نساء يتسمن بالبرودة في المشاعر، أما خواكين فينكس فقد جسد دور نابليون بكل صدق، طموحه وجاذبيته الساحرة ورغبته في غزو العالم لدرجة يبدو فيها أن إمبراطور فرنسا نفسه أمامك، يعود هذا للقوة والتعقيد اللازمين وموهبة فينكس في جذب انتباه المشاهد طوال الفيلم.
لكن على الرغم من تصوير فيلم "نابليون" بهذه البراعة، إلا أن ريدلي سكوت بدا مهتمًا بالكمال البصري لمشاهد المعارك أكثر من اهتمامه بعمق تطور شخصية نابليون ومصداقيتها أمام ما يمليه التاريخ.
صور تاريخية يُرجح أنها مشوهة، تقديم نظرة غير سليمة ذات بنية رتيبة إلى حد ما "لبطل" مثير للجدل، فيلم يفتقر للتركيز، ومقيد بشكل غير متوقع، لدرجة أن هناك الكثير من الأحداث التي لم يكن لدى المؤلفين ببساطة وقت للتوقف عندها وتشريحها، ومخيف أن أقول أن الفيلم ممل في بعض اللحظات، حتى المُشاهد الذي لديه معلومات عامة بسيطة حول الشخصية، سيعرف طوال الوقت ما سيحدث في المشاهد التالية.
نحن على يقين وثقة أن لكل شخص وجهات نظر خاصة وزوايا محددة ينظر من خلالها إلى معالم الفيلم ويتقصى أثر القصة من الحقيقة وما مدى مصداقيتها موازاة مع طريقة المخرج في معالجتها لها ونيته وراء تغيير الأحداث وربطها بتلك الطريقة، وهذا الفيلم، حقاً سوف تتثاءب فيه.
وعلى الرغم من احتواء الفيلم على مغالطات تاريخية ومشاهد غير قابلة للتصديق تماماً، فإن ريدلي سكوت أظهر تمجيداً لنابليون أكثر من اللازم ولم يُظهر جوانبه السلبية. في المقابل ظهر الرجل الذي اغتصب السلطة ودمر مصائر الملايين من الناس وسعى للسيطرة على العالم.. بطريقة إيجابية. ظهر على أنه عبقري بطل باسل مغوار غير معترف به حاول تغيير العالم نحو الأفضل، لكن العالم لم يفهمه.
مثل هذه الشخصية في رأيي لا تستحق الثناء فنياً ولا حتى في الثقافة الشعبية، لأن جعل نابليون شخصية جيدة بطلة ومقدامة، هو نفس إظهار هتلر على أنه كذلك كما صرح به أحد النقاد.
ولم يسلم ريدلي سكوت من أنياب الصحافة الفرنسية فور صدور الفيلم في دور العرض، حيث اعتقدت صحيفة "Le Figaro" أنه يجب إعادة تسمية الفيلم إلى "باربي وكين تحت الإمبراطورية"، وأضافت مجلة "GQ" الفرنسية "إنه من المحرج للغاية ومن غير الطبيعي والمضحك رؤية الجنود الفرنسيين عام 1793 وهم يهتفون "تحيا فرنسا" بلكنة أميركية".
عن نفسي أجد هذه التصريحات مثيرة للضحك والسخرية، لأن فرنسا ربما نسيت مواقفها الفنية العنصرية الصارخة تجاه العديد من الدول لكي تتحدث بدورها عن زيف أحد شخصياتها التاريخية سينمائياً.
مع كل هذا، لابد من التنبيه أن ما يُعرض في دور السينما حتى الآن هي النسخة السينمائية التي تبلغ مدتها ساعتين ونصف، منذ أن استثمرت شركة آبل في مشروع ريدلي سكوت، وعد هذا الأخير بنسخة مخرج أطول على Apple Tv+، وكما تظهر التجربة، قد يتبين أن نسخة المخرج الطويلة هي فيلم مختلف تماماً، وأكثر اكتمالاً وكمالاً.
بشكل عام، "نابليون" هو وليمة سينمائية، هو فيلم مثير لنوع الدراما التاريخية، قصة تجعلنا نفكر في دور الفرد في التاريخ، حول تأثير تصرفاته على مصير الملايين من الناس، ورغم النواقص التي لاحقت الفيلم، إلا أنه يترك انطباعاً عميقاً، ويستحق اهتمام المشاهدين المهتمين بالتاريخ والدراما.