في اختلاف تجارب الاعتقال
تداولت مختلف وسائل الإعلام صور المحرّرين /ات من المعتقلاتِ السورية وشهاداتهم/ن حول سياسات العقاب الجماعيّ والفردي وأشكال التعذيب والقتل والتنكيل بالأجساد بطرائق تتجاوز كلّ المعايير الإنسانية، والأخلاقية، والقانونية والحقوقية.
وبقطعِ النظر عن أشكال تلقّي هذه الشهادات التي تتراوح بين التعبير عن الصدمة والغضب والتعاطف... وبين التكذيب والتشكيك في مصداقيتها واتهام أصحابها بالمبالغة وعدم الاكتراث بها...، فإنّ التمحيص فيها مهمّ لأنّه يسمح لنا أوّلاً: برصد معاناة شعب لم يخضع للقمع والتنكيل بسبب سياساتٍ فرضها الاحتلال الغاشم (كما هو الحال بالنسبة إلى الفلسطينيين) بل بسبب سياساتٍ فرضها المستبدّ على فئات متعدّدة بدعوى أنّ من حقّه أن يؤدّبها ويصادر حياتها. وثانياً: بالتأمّل في الأسباب التي حوّلت العنف إلى ثقافةٍ بنيّويّةٍ مُمنهجة ومترسّخة تجمع بين الأيديولوجيّ والتطبيقي. وثالثاً: بتبيّن اختلاف تجارب الرجال والصبيان عن تجارب الشابّات والطفلات والنساء.
إنّ أفعال انتهاك أجساد النساء تتجاوز ممارسة العنف النفسيّ والجسديّ واللفظي والرمزي المُمنهج عليهن وسوء التغذية والحرمان من منتجاتِ النظافة الصحيّة والحفاظات النسائيّة وتعريضهنّ لمخاطر الإصابة بأمراض مختلفة تكون لها انعكاسات خطيرة على قدرتهن الإنجابية، إلى تجريدهن من إنسانيّتهن وتحويلهن إلى أدواتٍ توظّف لإذلال الرجال والانتقام منهم، ووسائل تُستعمل لترهيب الأزواج والأبناء والآباء حتى يبلغوا أو لانتزاع اعترافاتهم.
ولا تعكس الممارسات التي ينتهجها الضبّاط ضدّ المعتقلين علاقات القوّة السائدة داخل السجون بين الرجال والرجال فحسب، بل إنّها تكشف أيضًا عن علاقات الهيمنة الذكورية التي تحوّل النساء إلى أدواتٍ للخدمة الجنسية. فقد جاء في شهادات عدد من المحرّرات أنّهنّ أضحين تحت تصرّف الضبّاط الذين ينتقون أجملهن وأصغرهن للاستمتاع بهنّ، فيتحوّل المعتقل بذلك إلى فضاء يذكّرنا بمؤسّسة الحريم التي كانت توفّر الأجساد النسائية لتحقيق الإشباع الجنسي أو كسر الرتابة والترويح عن النفس بالملامسة والبصبصة...
ينشأ الرجل على تبخيس النساء ورفض التشبّه بهنّ لأنّ مكانتهن متدنية والتمثّلات الاجتماعية الخاصّة بهنّ تقرنهن بالفتنة والإغراء والكيد
تتعرّض المعتقلات للعنفٍ اللفظي والجسديّ/جنسيّ أثناء الاحتجاز، وفي مختلف جلسات التحقيق، فتُستعمل الكلمات "النابية" والإيماءات الجنسية والتحرّش والتعريّة القسريّة واللمس القسريّ (التفتيش).. ولا يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، إذ تتعرّض بعضهنّ للاغتصاب، وهو شكل من أشكال التدمير الذي يستهدف موت النساء اجتماعيًا. ففي مجتمع أبويّ تسود فيه الأعراف والمعايير الاجتماعية التي تحمّل المرأة الوزر وتتعمّد تأثيمها وتمارس عليها الوصم الاجتماعي والإقصاء والتهميش، تعجز النساء عن الاندماج في مجتمعاتهن من جديد، فيكون مصير بعضهن الانتحار أو العزلة القسرية أو...
ولكن الاعترافات النسائية بالتعرّض للإذلال الجنسي والاغتصاب التي بيّنت شجاعة غير مسبوقة للنساء ووعيهن بأنّ الضحية لا يجب أن تُدان أو تشعر بالعار وتفرّط في حقوقها، فضلًا عن قدرتهن على كسر حاجز الصمت الاجتماعي والثقافي، قُوبلت، في الغالب، بصمت الرجال وتكتّم من تعرّضوا لمثل هذه الانتهاكات، وهو أمر يستدعي البحث عن أسباب الصمت؟
صمت الرجال يصنّف صمتاً تاماً ناجماً عن صدمة خلّفت اضطراباً نفسيّاً يفضي إلى استبدال الكلام بالشتم والصراخ و... أو صمتاً ظرفيّاً قائماً على تكتّم إرادي عن حدث الاغتصاب (الإيلاج الفموي أو الشرجي) بسبب الإحساس بـ''فقدان الرجولة" والانكسار والضعف، بل الشعور بالعار، ذلك أنّ الرجل تُبنى هويته على أداء أدوار يكون فيها القويّ والفاعل لا المفعول به، وهو في الجنسانية الراكب/ الناكح/...لا المركوب والمنكوح... وينشأ الرجل على تبخيس النساء ورفض التشبّه بهنّ لأنّ مكانتهن متدنية والتمثّلات الاجتماعية الخاصّة بهنّ تقرنهن بالفتنة والإغراء والكيد والشر، والضعف والجبن... ومثل ما تخشى المعتقلة من عواقب الوصم (العار).. يخاف الرجل من تهمة تحوّله إلى مثليّ أو عنّين أو... ومن تشويه "السمعة".
ولذلك لا يلجأ أغلب ضحايا الاغتصاب الذكوري إلى الأنظمة القانونية أو الطبية أو النفسية للحصول على المساعدة، فتقلّ الشهادات ويفلت المجرمون من العقاب ويظلّ المُعتدَى عليهم غير مرئيين، فتنعدم فرص التعافي، وبذلك يستمرّ الوجع وحالة الاكتئاب... وتبقى الذاكرة نشطة تستعيد الصور والأصوات والروائح وملامح الوجوه... وتقلّ تبعًا لذلك فرص تحليل أثر التجارب السجنية على مسار تشكلّ الهويات وتفكيك طرائق إعادة بناء الرجولة داخل السجون والمعتقلات.