في الحاجة إلى علم الكلام اليوم
لاحظ معي أيها القارئ المتبصر أن اسم الإيمان، مشتق من نفس الجذر اللغوي الذي اشتق منه لفظ الأمن أيضاً، هذا بالإضافة إلى اقتران هذه الكلمة وأقصد الإيمان بكلمة جميلة أخرى وهي الاطمئنان، دعنا من التجارب التاريخية، وقضية الإيمان والكفر التي استنزفت جهد الكثيرين من غير الوصول إلى نتائج مرضية، بل ضلوا في بحر لجي تائهين، ولنركز على الجانب السيكولوجي لهذا اللفظ وأقصد مفهوم الإيمان، واليوم يستعمل لفظ يعجبني بكثرة وهو الأمن الروحي.
العالم اليوم يتصارع من أجل الأمن، قليلون يدركون ذلك، الأمن العسكري، الأمن الغذائي، الأمن السيبراني، الى غير ذلك من المفردات الكثيرة التي تتداول بكثرة اليوم، كل ذلك من أجل تحقيق الأمن، لكن هذه المجهودات المبذولة اليوم كلها تنصب في الجانب المادي، السباق نحو التسلح، السباق نحو تأمين مصادر الطاقة والغذاء، وغير ذلك، لكن كم يصرف على جانب الأمن الروحي مثلا في العالم، كم يصرف مثلا على الأكاديميات والجامعات ومراكز البحث التي يسكنها هاجس البحث في هذا الميدان، مقارنة بالجوانب الأخرى فإن هذا الأمر لا يكاد يذكر.
هناك أموال طائلة تصرف مثلاً على الأبحاث السيكولوجية، وكذلك على التكنولوجيا التي من شأنها أن تساعد الباحثين السيكولوجيين في هذا الأمر، مثلا شركة إيلون ماسك نيوراليك، لكن إذا ما فحصنا النظر وحاولنا أن نعرف الأسباب والمقاصد التي تدعو المستثمرين بل وحتى المؤسسات الحكومية التي تروم الاستثمار في هذا الجانب فإننا نجدها ربحية محضة، فمثلا في الجانب السيكولوجي كما الطبي فإن دافع المستثمرين فيه هو الربح لا أقل ولا أكثر، مثلا المؤسسات الكبرى التي تبحث في هذا الميدان في بعض الأحيان تمول من شركات خاصة، وما ذلك إلا بغية جمع بيانات أكثر متعلقة بطبيعة الإنسان، وبسلوكياته أيضاً، والهدف استغلال تلك المعطيات ضده أيضا في الأخير، وإلا ما السر في النجاح المهول التي تحققه هذه الشركات.
الأمن الروحي يكاد ينعدم اليوم في الحضارة المعاصرة، الأمراض النفسية هي أكثر الأمراض انتشاراً، وحتى الحلول التي تقدم لها الآن هي في الحقيقة ليست حلولاً جذرية
الأمن الروحي يكاد ينعدم اليوم في الحضارة المعاصرة، الأمراض النفسية هي أكثر الأمراض انتشارا، وحتى الحلول التي تقدم لها الآن هي في الحقيقة ليست حلولا جذرية بقدر ما هي بمثابة جرعات لمواد مخدرة، غرض أصحابها اكتساب الزبائن أكثر من تقديم حلول ناجعة لهم، بل حتى الفن الذي كان بمثابة علاج طبيعي للإنسان أصبح المتحكم الأساس فيه اليوم هو التجارة وهو الآخر خاضع لمنطق الربح والعرض والطلب، لهذا اختلط اليوم الغث بالسمين، وحتى من لم يخضع لغرض الربح فالسياسة حاضرة فيه، وبالتالي فالعالم اليوم رغم ما يعرفه من تقدم وتطور للوسائل الحديثة ظاهراً، إلا أنه فارغ من الداخل، والدليل هذه النماذج من الأفراد الذين تربوا في عصر التكنولوجيا الحديثة، إنهم لا يختلفون عن إعلان ماكدونالدز، الشكل والحجم يغري لكنهم فارغون تافهون من الداخل.
لا أحد يشك اليوم ولظروف تاريخية أن الدين هو الآخر استغل داخل هذه الدوامة، لكن ما سأتحدث عنه باختصار، هو طبيعة التدين التي أصبح يعيشها العالم بعد ما سمي بالثورة العلمية، حيث إن الدين أصبح هامشيا في المجتمع الحديث، الغريب أن الكثير من المدافعين والممثلين للدين، في اعتقادي أخطأوا في الدفاع عن الدين، وذلك بعدما دخلوا في منطق جدالي ضيق مع العلم، واستغلوا بعض معطياته بطريقة ساذجة للدفاع عن الدين، هذا كان يضعهم بين الحين والآخر في الإحراج حيث إن العلم كان دوما يغير نتائجه وهذا منطقه، بينما هم كانوا يقعون في حيص بيص كما تقول العرب، والجانب الآخر ظل متشبثا بالتقليد، فوقع له انكفاء على الذات فلم يجد من سبيل غير الاحتماء بالماضي كما هو.
الأمر ربما الذي كان ينبغي أن يستثمر فيه الباحثون جهدهم، هو تطوير النقاش الكلامي الذي بدأ مع علماء الكلام المسلمين، ومن ثم ربطه بعلم المنطق الحديث، ومحاولة بناء أدلة منطقية تتوافق والتقدم أو التطور الذي تشهده العلوم الرياضية والمنطقية، وهذا الأمر نجده حاضرا عند بعض الباحثين الغربيين من مختلف الديانات، وإذا ما كان من حديث سيكون عن الفلسفة الإسلامية فهذا ربما المجال الذي كان ينبغي أن يخوض فيه الباحثون بدلا من الـتأثر الأعمى ومحاولة الدفاع عن أفكار بعض الفلاسفة الغربيين بسبب أو من دونه.