في الرحلة الميمونة إلى القرية الميمونية (5)
مصطفى العادل
تقطع حافلة النقل المزدوج وهي تنقلنا إلى المدينة، منعرجات الجبال الشامخة بكلّ كبرياء، دون أن تأبه لخطورة الطريق، ووعورة الجبال والأنفاق التي تعبرها. أسمع من حين لآخر أنين الأطفال الصغار، والنساء اللواتي لا يغادرن القرية إلا نادرا، فهنّ لا يسافرن إلى المدينة إلا عندما يرغبن في تسجيل البطاقة الوطنية أو توقيع عقد قرانهن أو عندما يمرضن؛ حيث تجد الواحدة منهن نفسها في المستشفى العمومي وقد غادرت القرية مكرهة، بعدما أُغمي عليها تماما.
يشعر المسافر من جبال الأطلس بالإرهاق والحزن، إذ يضطر للاستيقاظ قبل طلوع الفجر بساعة ليحظى بفرصة الركوب في حافلة النقل المزدوج والمتجهة نحو المدينة. كما عليه أن يحترس من قساوة المناخ التي تتغيّر بسببها ملامحه، فيشعر كما لو أنه اقتحم مدينة نظيفة من كوكب آخر. أيضاً، يُعكّر بكاء الأطفال الصغار مزاجه، وتنقل ملامح الحزن الراقدة على وجوه النساء والشيوخ الأسى إلى أعماق قلبه، وقد يضطر ليضع منشفة على وجهه حماية لقلبه ومشاعره.
تغيّرت مدننا في العقود الأخيرة، تشوّهت أنساقها وتراجعت كثيرًا في القيم والأخلاق... وغيرها من عاداتنا وتقاليدنا التي نشأنا عليها، وهذا يُشعرنا بغربة وقلق عندما نسافر إلى المدينة، حيث يشعر الشخص من سكان القبائل الأمازيغية والبوادي المحافظة بحرب في أعماقه، وهو يتجوّل في شوارع مدننا المعاصرة، مما يراه في التجمعات من عري وكلام فاحش يُقال دون حياء، وقد يصادف أسوأ من ذلك مما تخجل أقلامنا من التعبير عنه.
ماذا حققت المدينة بعد هذه النقلة؟ أليست قفزة عشوائية في مسار ما بعد الإنسان؟ نحتاج اليوم إلى شيء من ماضينا الجميل، نحتاج إلى توبة جماعية تعيد الحياء والخجل والخوف من الله إلى أحيائنا وشوارع مدننا المشوّهة. آنذاك، لن يشعر الإنسان الذي يأتيها من القبائل المحافظة بالغربة، بل سيرى فيها النموذج الحضاري الذي يمكن أن تقتدي به القرى والبوادي التي لا تزال تفتقر للكثير من المقومات المادية من أجل الحياة السعيدة.
قد تفكر في الكتابة وسرعان ما يتوّقف ذهنك عن التفكير، وتتيه كلماتك التي تراودك كلّ يوم في فوضى المدينة وهرجها
كلّ هذه المشاعر كانت تهاجمني كلما كنت مضطراً لمغادرة قريتي تجاه المدن الكبيرة، وهو ما لم أشعر به وأنا في بداية طريقي الطويل إلى قرية "آيت ميمون" بجنوب غرب المغرب. لقد شعرت منذ الساعات الأولى من الصباح بفرح كبير لأنني لم أهاجر لأترك قريتي، بل لأقوّي تفاؤلي بالخير الوافر في كلّ أقاليم البلاد، كنت أدرك دوما أنّ على هذه الأرض من يجمعنا بهم الشيء الكثير في الدين واللغة والقيم والتقاليد. كنت أعلم أن "آيت ميمون" لن تختلف كثيرًا عن "آيت بوكماز"، وأنّ "آيت" الأمازيغية التي تعني "أهل" بالعربية، ستحمل أسرارًا كثيرة في سعادة الإنسان واطمئنانه.
كنت أدرك أنني لن أسافر لأحاضر في المدرجات الفاخرة، وأتقيّد بالكثير من البروتوكولات المصطنعة التي لم أكن أرتاح لها يومًا، بل لأنضم إلى الأهل. نحتاج نحن أهل جبال الأطلس الكبير إلى الكثير من الصبر والتحمّل من أجل الوصول إلى المدينة. وبمجرّد وصولنا إليها، نكون في حاجة أكبر للكثير من الجهد من أجل التكيّف مع التغيرات الكثيرة والسريعة التي تحدث في مدننا. ومن الصعب على أولئك الذين يقضون سنوات طويلة في القرى الجبلية أن يتكيّفوا بسهولة ويندمجوا في ضجيج المدينة وصخبها الموحِش.
بعد وصولي، قضيت ما تبقى من اليوم في مدينة بني ملال أنتظر بفارغ الصبر موعد انطلاق الحافلة نحو الجنوب، كنت في الحاجة إلى فترة راحة وانعزال، حيث أدركت قيمة كلّ لحظة أقضيها في أعالي جبال "آيت بوكماز" بين الأشجار الخضراء والمناظر الخلابة. كانت عندي رغبة كبيرة في الكتابة، فكرت مرّات في مذكرتي التي أرجع إليها من حين لآخر من أجل الكتابة، لكن لا شيء يساعد في المدينة على الإبداع. قد تفكر في الكتابة وسرعان ما يتوّقف ذهنك عن التفكير، وتتيه كلماتك التي تراودك كلّ يوم في فوضى المدينة وهرجها.
من الصعب على أولئك الذين يقضون سنوات طويلة في القرى الجبلية أن يتكيّفوا بسهولة ويندمجوا في ضجيج المدينة وصخبها الموحِش
لم يعد خاطري يطيق ضجيج المدينة وتوّحشها وفسادها، لا تكاد تسمع كلمة طيبة طيلة النهار، لا تكاد ترى منظراً جميلاً يسرّ العين ويريح القلب، هناك ثرثرة كبيرة وجرأة فاسدة واستعداد للموت والقتل من أجل أشياء تافهة، سائق التاكسي، بائع الفواكه، صاحب المقهى... معظم الناس في المدينة تأثروا بهذه الهمجية المقيتة، وانغمسوا في وحشية السرعة وما بعدها.
أراقب الساعة من حين لآخر، وأحسب المدة الزمنية المتبقية لموعد الحافلة بالساعات والدقائق. أخيراً، غربت الشمس بنورها الذي يستر عورة المدينة قليلا. تمتلئ الشوارع والحدائق بالناس، وقد اضطروا للخروج من منازلهم الضيّقة بسبب درجة الحرارة المرتفعة، يستمر الهرج والمرج في المدينة إلى الساعات المتأخرة من الليل حيث يقترب موعد الاستيقاظ في القرى والبوادي من أجل أعمال الحقول. اتصلت بالأصدقاء وأنا أستعد للذهاب إلى المحطة.
أخذت طريقي في اتجاه المحطة والساعة قد تجاوزت عقاربها منتصف الليل قليلا. لا تفصلنا إلا ساعة واحدة عن موعد الانطلاق كما تبيّن التذكرة. التقيت بصديقي، إبراهيم الطاهري، في المحطة بعد وصولي، وقد كان أوّل لقاء مباشر بيننا بعدما كنّا في تواصل لأكثر من أربع سنوات دون لقاء. تبادلنا أطراف الحديث في العلم والسياسة وأزمة التعليم ونحن في انتظار وصول كلّ الباحثين من أجل رحلتنا إلى الجنوب.